تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » تاريخ العالم الاسلامي>> (السيرة العطره المشرفه{جوانب العظمة في حياة الرسول القدوة)

تاريخ العالم الاسلامي>> (السيرة العطره المشرفه{جوانب العظمة في حياة الرسول القدوة)

بسم الله الرحمان الرحيمو الصلاة و السلام على أشرف المرسليننبينا محمد شفيع المسلمين

احببت ان الحق به تاريخ الاسلام والعالم الاسلامي والرسول (صلي الله عليه وسلم)

هذا بالاضافه الى غزوات الرسول وعصر الخلفاء الراشدين وغيره الي عصرنا الحالي

والله الموفق

9 أفكار بشأن “تاريخ العالم الاسلامي>> (السيرة العطره المشرفه{جوانب العظمة في حياة الرسول القدوة)”

  1. الأمم الغابرة بين القرآن والكتب السابقة والمكتشفات الأثرية الحديثة

    في القرآن الكريم أخبار تاريخية كثيرة بعضها ورد ذكره في التوراة , وبعضها الآخر ورد في الإنجيل, وبعضها تداول على ألسنة الناس , وبعضها لم يرد ذكره إلا في القرآن الكريم وحده .

    وقد وقف كثير من المؤرخين من غير المسلمين مواقف متناقضة من هذه الأخبار , أغلبها كان قائما على محاولة الشك فيما جاء في القرآن الكريم , حتى تطور علم الآثار ودراسته في العصر الحديث , وبدأت توضح كثير من الحقائق والأخبار التارخية الغامضة , فإذا بنا نرى أن ما جاء في القرآن الكريم هو الحق , فكان في ذلك آية حيرت الكافرين , وزادت المؤمنين إيمانا على إيمانهم .

    غرق فرعون :


    ومن تلك الحقائق التي ذكرت في القرآن , وحاول البعض أن يشكك فيها قصة غرق فرعون ونجاته ببدنه كما قال تعالى " اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية " (يونس 92 ) والمعروف أن التوراة تروي أن فرعون غرق ومن معه , ولا تضيف شيئا إلى ذلك , أي لا تتحدث عن إخرجه من اليم وحفظ جثته .

    وقد ظل هذا الشك عندهم قائما إلى أن اكتشفت مومياء "مرنفتاح بن رعميس الثاني " في مدفن بوادي الملوك بمصر عام 1898 م ، وحفظت في متحف القاهرة حتى جاء الدكتور " بوكاي " الطبيب الفرنسي , وحاول كشف سر بقائها , فقام بإجراء عدة فحوص واختبارات عليها , وشاركه فيها مجموعة من أساتذة الآثار العرب , ثم نقلت المومياء إلى باريس حيث خضعت لعدة تجارب أخرى .
    وظهر من خلال الفحوصات بما لا يدع مجالا للجدل أن الجثة قد أصابها الغرق , وأنها تحمل آثار كدمات وضربات في أنحاء مختلفة من الجسد , يبدو أنها أصابتها نتيجة تلاطم الأمواج التي كانت تقذف به بين الصخور قبل موته وهو يصرخ " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل "

    ثم أعد الرجل " بوكاي " كتابا بعنوان " التوراة والقرآن والعلم " ذكر فيه قصة فرعون وموسى عليه السلام , وسجل فيه أن فرعون الذي جاء ذكره في القرآن الكريم لابد أن يكون مرنفتاح بن رعميس الثاني , وإنه توفي فعلا في مطاردته لبني إسرئيل , وإن جثته لم تغرق نهائيا بل انتشلت , أو ربما لفظتها الأمواج .
    وهكذا شاء الله سبحانه أن يحفظ ذلك البدن بالتحنيط حتى يكتشف أمره في العصر الحديث ؛ ليعلم الناس أن القرآن هو الحق .

    طوفان نوح عليه السلام :


    ومن الأخبار التاريخية التي وردت في القرآن وحاول المنتسبون إلى العلم التشكيك فيها طوفان نوح عليه السلام , حيث وصفها البعض منهم بأنها أسطورة خرافية لا أساس لها من الصحة , لكن شاء الله أن يظهر الحقيقة على يد بعثة " السير ليونارد وولي " في عام 1929م حيث اكتشف ببراهين قاطعة لا تقبل الجدل أن طوفانا حدث في جنوبي العراق عام 3000 قبل الميلاد , ثم وجدت لوحات فخارية في جنوب العراق تؤكد ذلك .

    كما أثبتت الحفريات أن هذا الطوفان لم يكن عاما شمل المعمورة , كما جاء في التوراة , إنما أصاب بلاد قوم نوح عليه السلام الذين أرسل إليهم فقط , وهذا ما يفهم من قوله تعالى : " وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية " الفرقان : 37.

    إرم ذات العماد :


    ومن تلك الأخبار التاريخية التي جاءت في القرآن الكريم ، وأكددت صحتها دراسة الآثار قصة عاد , والتي تحدث عنها القرآن في عدة آيات منها قوله تعالى " ألم تر كيف فعل ربك بعاد , إرم ذات العماد , التي لم يخلق مثلها في البلاد " ( الفجر : 5ـ 8) وقوله : " فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق , وقالوا من أشد منا قوة , أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة , وكانوا بآياتنا يجحدون , فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا , ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون " (فصلت : من 15 ـ 16 ) وقوله " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم , ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم " (الذاريات 42ـ 43).

    وقد جاء في بعض نصوص الأدب السومري قصيدة لشاعر يرثي فيها خراب مدينة إرم , ويقول فيها :
    لقد أصبحت مدينتك خرابا فكيف تستطيعين البقاء

    لقد أصبح بيتك عاريا فكيف ما زال قلبك ينبض

    إرم الهيكل قد تسلمته الرياح فكيف تستمرين حية

    وقد ظلت اللوحات التي تحمل هذه الأبيات مدفونة في آثار المدينة قرابة خمسة آلاف عام , ولم تظهر إلا في القرن الماضي .

    وهذه الأبيات وما أظهرته التنقيبات الحديثة والنصوص المكتشفة من عظم مدينة إرم وطغيان أهلها في الأرض لا تترك مجلا للشك في كونها المدينة المشار إليها في الآيات السابقة. .
    ولا عجب إنه كتاب الله !!




  2. المجتمع العربي قبل الإسلام: دراسة قرآنية

    تمهيد:

    تعتبر البيئة التي شهدت ختم النبوة ذات دلالة هامة حول علاقة الرسالة بالواقع والسياق الجغرافي والتاريخي الذي بدأت فيه، كما أن معرفتها مهمة في فهم طبيعة الرسالة الخاتمة وخصائصها، والإلمام بهذه البيئة يكتنفه الكثير من الصعوبات والغموض , لاسيما فيما يخص الواقع الديني الذي كان سائداً آنذاك، إذ المراجع التاريخية حول هذه المرحلة وفي الجانب الديني بالخصوص قليلة جداً، وما وجد منها لا يفيد في الموضوع , إلا إشارات ودلالات عامة لا تفسر العقلية والتفكير الديني الذي كان سائداً , بخلاف مناطق ومراحل تاريخية أخرى , إذ توجد حولها نصوص ونقوش مفصلة أحياناً، وهذا ما عانى منه مختلف المؤرخين الذين اشتغلوا في الموضوع(1) .


    أما النص القرآني فأسلوبه بشكل عام يبتعد عن التفصيل في المواضيع التاريخية , إذ يأتي بذكرها لتحقيق هدف خاص هو العبرة والنقد والتوجيه نحو المستقبل , واكتشاف السنة الإلهية، لذلك فهو غير صريح في الدلالة على ما كان سائداً، لكن ما ورد فيه من نقد متواتر لما كان سائداً من عادات وتقاليد وأفكار يمكن أن يكون مرجعاً غير مباشر لاكتشاف تلك البيئة المثيرة(2) .


    وهذا ما سنتتبعه في هذه المقاربة مستأنسين ببعض ما ورد في الدراسات التاريخية المتخصصة في تلك المرحلة، وقد لوحظ أن القرآن يقدم عن الدين الجاهلي صورة تختلف تماماً عما تقدمه كتب التاريخ والأدب(3) ، لاسيما وأن تلك المصادر سعت إلى تقليل شأن عصر النبي وبيئته قبل البعثة من الناحية المادية والأدبية , والمدارك العقلية حيث تصفها بصفات الجهل والانحطاط والغلظة..، وهي نظرة تخالف ما تلهمه نصوص القرآن عن تلك الفترة(4) .


    المجتمع بين البدو والحضر:

    من الصعوبات التي نود أن نشير إليها والتي لم يسعف فيها النص القرآني ولا الدراسات التاريخية الخلط في المصادر بين البيئة الحضرية المكية التي بعث فيها الرسول وبين عادات وتقاليد أهل البدو والمناطق غير الحضرية، فما ورد عن العرب في الجزيرة العربية يتم تداوله مجملاً من غير تفصيل(5) ، فهل ما ورد كان خاصاً بأهل مكة من العرب , أم يشمل ما جاورهم في أصقاع الجزيرة العربية من بواد وحواضر أخرى غير مكة وهي غير قليلة وعلى صلة مباشرة بأهل مكة، وما يدعو إلى إثارة هذا التساؤل ما يمكن ملاحظته من تناقض في العادات(6) ، والقيم الواردة عنهم مجملة دون تفصيل، بل إن بعض المستشرقين شكك في مدينة مكة باعتبارها محطة للقوافل(7) .

    وإذا تأملنا في القرآن نجد إشارات خاصة إلى الأعراب(8) الذين يكونون عادة حول القرى(9)، وبينت الآيات بعض أخلاقهم وعاداتهم وكيفية تعاملهم مع الرسول مشيرة إلى كونهم أشد كفراً وغلظة من أهل الحضر(10) ، مما يدل على تفاوت في قيم التعامل مع الرسالة بين أهل القرى وأهل البادية، كما أن الأعراب أنفسهم -كما تشير الآيات – لم يكونوا على درجة واحدة في تلقي الرسالة وتعاملهم معها(11) ، ومما يلح على ضرورة التمييز بين البدو الحضر هو ظاهرة تعميم حال البدو الرُّحَّل , واعتبارهم مقياساً للثقافة العربية فيما قبل الإسلام(12) .


    لكن بعض الباحثين لاحظ ضرورة إعادة الاعتبار للقرشيين الذين كانوا أكثر وعياً وذكاء وإنسانية من الجموع البدوية، وأنه كانت لهم قدرات أخلاقية وفكرية استثنائية، لا يستبعد أنها تكرست عبر تحول الشخصية لأناس كانوا بدواً في الماضي , وذلك بفضل الاستقرار الذي ساعد عليه توطد التجارة في مكة(13) .


    وأن هذا الوضع الجديد للقرشيين في مكة أدى إلى دخول قيم جديدة بفضل الثروة , ومن هذه القيم النزعة الفردية , وروح المنافسة مقابل المثل الجماعية التي كانت طاغية , ويحاول هذا التفسير إبراز حاجة المجتمع إلى قيم جديدة تحافظ على القبيلة(14) .

    أياً يكن الأمر فيما يخص الاختلاف بين أهل القرى وأهل البادية وما كان سائداً بين كل من نظُمٍ وقيمٍ، فإن من ميزات الإسلام أنه استطاع صهر المجموعات البدوية والحضرية في نسق واحد ووجههم في خط الرسالة(15) ، والأهم هو فهم هذا المنهج القرآني من خلال الأفكار التي نقدها القرآن مجملة من غير تفصيل بيئتها وخلفيتها وأصحابها، كما هو الشأن في الكثير من القصص القرآني.


    فما لم يكن التاريخ مؤثراً في العبرة والدلالة يهمل، والذي يمكن تلمسه من خلال هذا العموم القرآني في الحديث عما كان سائداً قبل البعثة هو الثراء والتنوع والتناقض في القيم والأديان والعادات التي كانت سائدة قبل البعثة، حتى اعتبرت الجزيرة العربية مختزلة لأديان ومعتقدات العالم السماوي منها والأرضي(16) .


    وفي هذا الإطلاق والتنوع في بيئة جغرافية مركزية تشهد حركية منقطعة النظير بين مختلف المناطق من العالم دلالة على الحكمة من كون الرسالة الخاتمة تنطلق من هذه البيئة إلى العالم ,إذ ستأخذ طابع البيئة التي انطلقت منها وهو العالمية، وهذا ما يدعونا إلى اكتشاف مكة في عصر ما قبل البعثة , وما أهَّلها لاحتضان مبعث النبوة الخاتمة .


    مكة قبل البعثة:

    إذا ذكرت مكة تعود الذاكرة إلى إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- ورفعهما القواعد من البيت , ونداء إبراهيم في الناس بالحج، ودعاء إبراهيم لأهل هذا البيت(17) ، وفي هذه الإشارة والعلاقة بين إسماعيل وذريته والبيت الحرام دلالة على التقابل مع إسحق , وتوالي الأنبياء من ذريته، فكانت ذرية إبراهيم قد شرفت بالتاريخ الرسالي والجغرافية المقدسة والمحرمة، فلئن اختص نسل إسحق بالأنبياء فإن نسل إسماعيل ارتبط بالمكان الذي أصبح مركزاً ومآلاً للرسالات التي ختمت به ؛ لتنطلق إلى العالم بصيغة نهائية تناسب الكونية التي غدت تحتلها مكة وبيتها الحرام، أول بيت وضع للناس(18) ، الذي سيصبح مركز التاريخ الإنساني(19) .


    هذه المركزية والعمق التاريخي لمكة الذي يشير إليه القرآن يدعو لمعرفة أحوالها , وذلك لفهم الأساس الذي قام عليه الإسلام(20) .


    يطلق القرآن على مكة اسم أم القرى(21) مما يحمل دلالة على محوريتها بين القرى الأخرى التي ترجع إليها , وتقلدها كعاصمة توجه المنطقة(22) ، فموقفها من أي قضية يؤثر بموقف المناطق الأخرى حتى إذا فتحت ودانت بالإسلام تبعها الناس(23) ، ومما لا يحتاج إلى تأكيد أن وجود الكعبة ومناسك الحج فيها كان العامل الأكبر في مكانة مكة , والمركز المعنوي الذي تتمتع به(24) .


    إضافة إلى ما كانت تتمتع به من حركية تجارية بفضل موقعها على الطريق التجاري البري بين اليمن وبلاد الهلال الخصيب، وممارسة أهلها للتجارة مع مختلف بقاع العالم براً وبحراً، وكذلك المهن المرتبطة بالتجارة(25) ، والقرآن يحفل بالآيات الدالة على ذلك .


    فالقرآن يستعمل تعابير مالية وتجارية لا بد كانت مفهومة ومتداولة مثل: الحساب والميزان والقسطاس والذرة والمثقال والقرض، كما ذُكرت السفن والجواري والمنشآت في البحر، وتردد فيه ذكر تجارة البحر، كما كانت ظاهرة الاستثمار بالربا والقرض ظاهرة منتشرة كما تدل آيات الربا في القرآن، وسورة قريش(26) واضحة الدلالة على الرحلات التجارية البرية , وما كان يعقد فيها من اتفاقيات وعلاقات، والسور المكية تحفل بما يدل على ثرواتهم الطائلة(27) .

    كما أن عاداتهم في استقبال القوافل التجارية بقيت مستمرة لما بعد الإسلام(28) ، كل ذلك يدل على المكانة التجارية التي كانت تحتلها مكة قبل البعثة، ويستتبع هذه المكانة مستوى من الوعي الضروري الذي أهَّلهم للقيام بهذا الدور.


    هذا والمكانة الدينية التي تحتلها مكة منذ القديم(29) هي العامل الأساسي في نجاحها التجاري , إذ شكل موسم الحج فيها سوقاً تجارياً سنوياً، والأهم من ذلك ما وفره الحرم من أمن لمكة , تلك المدينة التي لا تمتلك عوامل الأمن الطبيعية فجاء أمنها من قدسيتها واحترامها عند الناس, وقد أشار القرآن إلى هذا الجانب في قوله تعالى : " وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا , أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ " [القصص:57].

    بل هناك آية قرآنية صريحة في كثرة خيراته , وهي"يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ" وقد أشار اللَّهُإلى العلاقة بين الكعبة وموسم الحج وبين التجارة التي فيها قوام الحياة في قوله تعالى : "جعل الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ" [المائدة:97](30).

    قدسية مكة ومكانتها هذه فرضت بعض الوظائف الدينية والاجتماعية لدى أهل مكة الذين شرفوا بها، وهي وظائف متداخلة، فهي اجتماعية باعتبار علاقة الأقوام والقبائل بها , ودينية من حيث ارتباطها بالبيت الحرام ورعايته، ومن هذه الوظائف التي أشار القرآن إلى قيامهم بها: النسيء وهو تحديد مواعيد الأشهر الحرم من كل عام بما يتناسب مع مصالحهم(31) ، والسقاية وعمارة المسجد الحرام ورعايته(32) .


    هذه الصورة العامة لواقع مدينة مكة تدل على كونها مدينة تمتلك من مقومات النظام ما يؤهلها لقيادة ما حولها من الحواضر، بل وتنظيم العلاقات واللقاءات بين مختلف القبائل والوفود القادمة إليها، ولئن كان غامضاً طبيعة النظام الذي كان سائداً فإن هناك إشارات قرآنية عديدة إلى بعض الآليات التي كانت سائدة في إدارة مكة وقيادتها، من ذلك ظاهرة النوادي التي كان يجتمع فيها الناس ويتداولون الشأن العام , وقد أشار القرآن إلى ذلك(33) .


    إضافة إلى العديد من المفردات التي تم تداولها في القرآن , والتي تدل على وجود ملامح الشوكة والسلطة والحكم في تلك البيئة، من ذلك: الجند، الإثبات والإخراج من مكة، الملأ، الحبس، السجن، أولو الأمر.. ، كل هذه المفردات تدل على مفهوم السلطة , وقد استعملت في آيات مكية، ومنها ما هو مباشر يخص أهل مكة , ومنها ما يدل السياق على علمهم بمضمونها ومعانيها(34) .


    ونفس الأمر بالنسبة للقضاء فهناك آيات ومصطلحات – أبرزها مفردة الحكم ومشتقاتها- تدل على وجود نمط من السلطة القضائية تحل النزاعات بين الناس، وكانت تستند إلى التقليد والعرف، ويقوم بها الوجهاء، وتتم بالاختيار(35) .


    هذا عن المعالم العامة لمكة قبل البعثة، أما الشرائح السكانية التي كانت تقطن في مكة فهناك آية تشير إلى وجود بعض الأجانب إلى جانب العرب(36) ، لكن هناك آيات مكية كثيرة(37) تدل على وجود جالية لا بأس بها من أهل الكتاب يعيشون مع العرب في مكة وأكثرهم من النصارى وفيها بعض اليهود(38) .


    أما جذور وتاريخ اليهود في الجزيرة العربية فليس هناك من النصوص التاريخية ما يتحدث عن وجودهم قبل الميلاد , أما بعده فقد ثبتت هجرتهم إلى الحجاز إثر ظهور الروم على بلاد الشام وفتكهم بالعبرانيين(39) ، أما النصرانية فقد دخلت الحجاز عن طريق التبشير والنساك والرهبان الذين قدموا إليها(40) .


    وقد دخل بعض العرب في النصرانية , أما اليهود فقد كانوا أقلية في مكة , وانتشروا في المدينة أكثر , ويدل الخطاب القرآني لهم بـ ( بني إسرائيل ) على الإطلاق على الصلة بين معاصري عصر الرسول وأسلافهم وعلى كونهم طارئين على الحجاز , وأنهم غير عرب(41) .


    هذه الجالية الأجنبية المقيمة بمكة بما تحمله من أفكار وعادات، إضافة إلى الوفود السنوية من مختلف المناطق التي تفد إلى مكة في موسم الحج أو القوافل التجارية التي تمر عبر طريقها، كل ذلك سيكون له دوره في التلاقح الفكري الذي من الطبيعي أن يكون له أثره في أفكار وربما عقائد المكيين، وفضلاً عن هذا الجانب فإن لحضور هذه الجاليات دلالة على كون مكة فضاء مفتوحاً , وكون المكيين على إحاطة بما يجري في العالم , وعلى اتصال دائم بما حولهم، كل هذه المعطيات تؤكد المكانة الحضارية التي كانت تمتاز بها مكة مما أهلها لاحتضان الرسالة الخاتمة التي ستنطلق إلى العالم المختزل في عالم مكة الأرخبيلي.

    لكن المحور الأهم في حياة المكيين هو الأفكار والعقائد التي كانت سائدة قبل البعثة، ولئن كان القرآن المكي يشتمل على بيانها فإن السياق القرآني يعالج هذه الأفكار خارج إطار الزمان والمكان، وليس من الضروري أن تكون الأفكار المطروحة للنقد هي أفكار أهل مكة باعتبار أن الدعوة كانت تنطلق إلى جميع الناس , حتى الوفود الذين يردون إلى مكة أو القاطنين خارجها، مما يقتضي اتباع السياق القرآني , وتناول تلك الأفكار خارج السياق التاريخي والجغرافي، ويؤكد أهمية ذلك ما أشرنا إليه سابقاً من تداخل أفكار أهل البدو مع أهل الحضر دون تمييز.

    لهذه الاعتبارات سنتناول الأفكار والعقائد التي كانت سائدة قبل البعثة , والتي يشير إليها القرآن , وذلك بغض النظر عمن كان يتبناها ، والمكان والتاريخ الذي كانت منتشرة فيه، المهم حضورها في عصر الرسول.


    الأفكار والعقائد/ البيئة الدينية والفكرية قبل البعثة:

    يحتل المجتمع الجاهلي مساحة كبيرة من آيات القرآن , إذ بلغت الآيات التي تناولته /1575/آية، منها /1096/آية مكية و/479/آية مدنية، وتشكل عقائد المجتمع الجاهلي نسبة 54% من الآيات، ومعظمها مكي، وقد توزعت القضايا العقدية فيها على ثلاثة محاور: الشرك=514، البعث=282، إنكار الوحي=69 (42) .


    هذه المعطيات العددية إن دلت على شيء فإنما تدل على أهمية تلك المرحلة , وضرورة معرفتها لما لها من أثر في تصور الإضافة التي جاءت بها الرسالة الخاتمة، والتركيز القرآني على مجموعة من العقائد المركزية , يشير إلى أهميتها في مضمون الرسالة الجديدة.

    سنحاول استكشاف المحاور الرئيسية للأفكار والعقائد التي كانت سائدة مستلهمين ذلك من آيات القرآن مع الإحالة على أماكن تفصيلها في كتب اختصت بالموضوع، وسنركز على ثلاثة محاور : الأفكار والعادات العامة , وسنجمل فيها ما ساد من عادات وتقاليد اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية بشكل عام، ثم نثني بالعقائد الدينية التي كانت سائدة , ونتبع ذلك بالطقوس الدينية المنتشرة .


    1- الأفكار والعادات العامة :

    يوصف المجتمع الذي سبق البعثة بالجاهلية , وهو وصف وارد في القرآن على بعض الجوانب في ذلك المجتمع(43) ، فهو وصف نسبي ينطبق على الجانب العقدي وما يرتبط به , وبعض العادات الاجتماعية , ولا تصح هذه التسمية من الناحية الثقافية(44) ، فلم يكن مجتمع ما قبل البعثة كما تصوره الكثير من المصادر مجتمعاً معزولاً عن العالم , أو لا يعرف من العلوم شيئاً بل العكس، إذ كان لدى العرب أدب ولغة في غاية التطور، وكانت لديهم معارف بالأنساب والتاريخ والفلك، فضلاً عما تقتضيه الحركة التجارية التي كانت سائدة في المنطقة من علم بالاقتصاد والحساب والكتابة، والدلائل كثيرة على إلمام العرب بالقراءة والكتابة وانتشارها بينهم(45) .

    هذا التقدم الحضري الذي سبق البعثة يذكرنا بالبيئات التي بعث بها الرسل من قبل , والتي كانت تتميز بكونها مجتمعات حضرية متقدمة , وربما بلغت شأواً في العلم والتقدم المادي، هذا الجانب المادي عندما يطغى على الجانب الأخلاقي يسود الظلم , ويصل بالمجتمع إلى مأزق روحي، فيأتي التدخل الإلهي عبر إرسال الأنبياء لتصحيح مسيرة الناس , وردهم إلى فطرتهم , والإيمان بالله الذي يقتضي العدل , وإعارة الجانب الروحي من حياة الإنسان حقه، فالتقدم المادي لا يستلزم رقياً دينياً أو روحياً , بل ربما كان عائقاً أمام انتشار القيم والمثل التي يحافظ عليها قلة في المجتمع، وهذا ما كان عليه حال المجتمع الذي سبق بعثة الرسول .

    فمن العادات الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العصر التمييز ضد المرأة المتمثل في مختلف الجوانب المتعلقة بها من طرق النكاح والطلاق إلى الإرث والوأد، وإن كانت هناك شريحة من النساء في نفس المجتمع تأخذ دوراً اجتماعياً متميزاً ينافس الرجل كالتجارة , والمشاركة في الدفاع عن المجتمع وقيمه، وقد حكى القرآن مناهضة نماذج من نساء ذلك العصر الدعوةَ الجديدة وإيذائهن الرسول(46) .


    وهذا التفاوت في دور المرأة المتراوح بين كونها سبَّة وعاراً ومتاعاً , وبين ممارستها لدور قيادي في المجتمع يحمل إحدى دلالتين: إما تنوع الموقف من المرأة واختلافه بين الحضر والبدو , أو بين القبائل , أو بين المناطق , أو بين أصناف من النساء في المجتمع الواحد , وقد حكى القرآن جميع الصور التي كانت موجودة بإجمال دون تفصيل , مع تقويمها وتصحيحها , ودعم ما هو صواب وإيجابي منها.

    والدلالة الثانية المحتملة أن المرأة كانت تتعامل مع تلك القيم التي تضطهدها على أنها أمر واقع وقانون اجتماعي ينبغي الرضا به وقبوله دون أن يمنعها من ممارسة دور ما يسمح به المجتمع، وهذه العادات المتعلقة بالأحوال الشخصية والعلاقة مع المرأة إنما هي عادات اجتماعية لا ترتبط بالدين الجاهلي إلا في بعض الجوانب منها , سنشير إليها لاحقاً.




  3. الجانب الآخر الذي كان سائداً من العادات , والذي كان يحمل أكثر من وجه من الناحية القيمية هو ظاهرة الولاء والعصبية بين أفراد القبيلة ومن يدخل في حلفهم، وكان هذا الجانب يمثل رابطة العقد السياسي الذي ينظم المجتمع , ويقوده ويضمن فيه الأمن والحفاظ على الحوزة ووحدة القبيلة، وقد أورثت هذه العادة بعض الجوانب الإيجابية التي استثمرها الإسلام ورعاها مثل: التآلف والتآزر ومساعدة الضعيف والجوار ..

    لكن الجانب الخطير لهذه العادات هو ما تورثه العصبية العمياء من ظلم واعتداء وسفك للدماء , وذلك بالثأر ومناصرة القبيلة , سواء كانت على حق أو باطل، فجاء الإسلام يصحح هذه المظاهر ويقومها(47) .


    إضافة إلى هذه العادات كانت ظاهرة الطبقية والرق منتشرة عندهم، لكن العتق كان مكرمة يمتدح بها ممارسوها , وقد حارب الإسلام هذه الظاهرة , وشجع على مكرمة العتق التي كانت منتشرة كفضيلة بين الناس(48) .


    هذه هي أهم العادات التي كانت سائدة , أوردنا مجملها من غير تفصيل ؛لأن تفاصيلها كثيرة وما أحلنا عليه من مراجع يغني عن التكرار, إنما أردنا الإشارة إلى الطابع المزدوج من الناحية القيمية لهذه العادات، وكيف تعامل القرآن معها مستثمراً الإيجابي منها , ومصححاً للجانب المظلم منها، وهذا المسلك القرآني مع العادات سيتكرر مع الجانب الديني الذي سنتناوله في الفقرة التالية .


    2 – الفكر الديني قبل البعثة :

    تطالعنا آيات القرآن بأسماء أديان كانت معروفة ومتداولة لها معتنقوها في ذلك العصر وهم: اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والمشركون(49) ، وقد كان لهذه الأديان حضور وتواصل بين أتباعها، مما يجعل من الطبيعي أن يكون بينهم حوار وتأثر متبادل، وسنعرِّف بكل فريق منهم في إطاره الزماني والمكاني .

    اليهود والنصارى : أشرنا قبل قليل إلى وجود جالية من اليهود والنصارى في مكة، وكان لهم حضور أكبر في المدينة، وقد اعتنق بعض العرب النصرانية، وكان لبعضهم مكانة متميزة في المجتمع، وكانت تجري بينهم وبين المشركين حوارات وجدل في قضايا مختلفة، وقد تأثر بهم العرب , وتعلموا منهم بعض الفنون والقصص وأخبار الأنبياء والأمم الغابرة , فكان لعلمهم بالكتاب تميز على العرب الذين كانوا ينتظرون نبياً يبعث فيهم , بينما كان أهل الكتاب يدَّعون أن النبي سيبعث منهم(50) .

    وكان لهم تأثير في أفكار العرب الدينية لكن دون أن يتمكنوا من اكتساح الوثنية الجاهلية ؛ ففضلاً عن كون اليهودية ديانة قومية لا تسعى لإدخال الناس فيها فإن أفكارها لا تناسب بيئة العربي الذي يسعى للحصول على الغنائم من الحروب بينما تحرم اليهودية الانتفاع بها، وكذلك المسيحية لم تكن لتقنع العربي الذي يحب الثأر أن يدير خده الأيسر لمن ضربه على خده الأيمن كما تدعو المسيحية(51) .

    لكن ذلك لم يمنع من انتشار النصرانية بين بعض القبائل العربية(52) ، وقد كان لأفكار اليهود والنصارى أثر في تطور الفكر الديني العربي الذي تقدم عليهم أحياناً كما سيتم الإشارة إليه، هذا ويتميز النصارى على اليهود بحسن علاقتهم مع المسلمين وتعاملهم السلمي مع الدعوة الجديدة , بخلاف اليهود الذين قاوموا الدعوة ومارسوا مختلف ألوان المكر والدس في محاربة الرسول والدعوة(53) .


    ورغم ذلك كان هناك فريق من اليهود والنصارى آمنوا واتبعوا الرسول(54) ، ويحفل القرآن بما جرى من جدل بين الرسول واليهود والنصارى , وذلك في إطار أداء الرسول مهمته في التصديق والهيمنة لما بين يديه من الكتاب(55) .

    المجوس: يقصد الأخباريون بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة، وقد وردت لفظة المجوس في القرآن علَماً لدين(56) ، فدل على وقوف أهل الحجاز على خبرهم ومعرفتهم بهم، ولا يستبعد وجود نفر منهم في مكة والمدينة والطائف وغيرها، ربما وجدوا عن طريق التجارة أو الرقيق، ولم يرد دخول قبائل عربية في المجوسية , ولهذا كان معظم مجوس جزيرة العرب من الفرس المقيمين في البحرين واليمن وعمان(57) ، ويروى أن المجوسية كانت في تميم(58) ، وأياً يكن الأمر ففي ذكرهم دلالة على صلة العرب بالأديان الشرقية مما سيكون له أثر في أفكارهم وعقائدهم.

    الصابئون: ذُكِر الصابئون في القرآن ثلاث مرات، وقد اتجه معظم المفسرين إلى جعل المقصود بهم ديانة الصابئة المختلف في عقائد أصحابها بين قائل إنهم من المجوس أو إنهم عُبَّاد الملائكة أو الكواكب أو الشمس، أو إنهم فريق جمع بين مختلف الأديان، ومن هذه العقائد ما طرأ بعد الإسلام(59) .

    وكل هذه التفسيرات مستبعدة نظراً لذكرهم مع المجوس , وتصنيفهم مع اليهود والنصارى ذوي الأصل التوحيدي , مما يرجح كونهم أقرب إلى التوحيد، إضافة إلى أن الكلمة متداولة بين العرب بكثرة، وتدل لغوياً على الميل والانحراف(60) ، وقد استعملها العرب لمن انحرف عن دين القوم وعقائدهم، وبهذا المعنى أطلقوها على من أسلم واتبع الدين الجديد، وكانت تطلق على من ترك عبادة الأصنام، كما كانت تستعمل في مقام الحنفاء .

    وقد أطلقت على الرسول وأصحابه، مما يرجح إطلاقها في عرفهم على الموحدين الذين نبذوا الأصنام قبل البعثة وانحرفوا عن دين قومهم، وهم في التعبير القرآني غير المسلمين وغير اليهود والنصارى وغير المجوس , كما إنهم معهودون بين العرب، وقد سُلِك العرب المسلمون في زمرتهم – رغم اعتراض المسلمين على التسمية – لاشتراكهم في الاعتراض على دين قومهم وانحرافهم عن تقاليده وقولهم بالتوحيد، ولعلهم هم نفس الحنفاء الذين كانوا في الجاهلية(61).


    ولا يزال مفهوم الصابئين من المفاهيم الشائكة التي حيرت المفسرين والباحثين قديماً وحديثاً(62) ، وأرى أن هذه التسمية القرآنية ربما لتميز الحنفاء الذين أسلموا من الذين استمروا منهم على ما هم عليه ولم يدخلوا في الإسلام , إذ وصف الحنفاء التحم بوصف الإسلام , بينما الصابئون سلكوا في صنف الأديان ذات الأصل التوحيدي دون أن يعتنقوا الإسلام، فهم الحنفاء قبل الإسلام ولم يتحولوا إليه، وهذا يحيلنا على الحنفاء قبل الإسلام .

    الحنفاء: عرف الحنفاء بين المسلمين بأنهم من كانوا على دين إبراهيم من الجاهليين، فلم يشركوا بربهم أحداً , ولم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية، ولم يقبلوا بعبادة الأصنام ديناً , بل سفهوا تلك العبادة والقائلين بها، وكانت لهم عادات خاصة تميزوا بها، وعلى العموم فإن المصادر لا تساعد على رسم صورة واضحة للحنفاء، فما ورد في القرآن يؤكد أنهم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام، فلم يكونوا من المشركين، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى، فلم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وكان قدوتهم إبراهيم.

    أما المصادر التاريخية فإن معظم ما ورد فيها عنهم يخص الناحية الأخلاقية أكثر مما يخص الناحية الدينية، وما يمكن ملاحظته أن الحنفاء كانوا على رأي واحد لا كطائفة واحدة، فقد كانوا نفراً من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح(63).

    ويرى البعض أن التيار الحنيفي كان يحمل مشروعاً دينياً سياسياً على مستوى الجزيرة العربية لكن الإسلام قام بالطموحين فانتفى الشرط التاريخي لظاهرة الحنفاء(64) .


    خلصنا مما سبق إلى أن ما يجمع الصابئة والأحناف هو الأصل التوحيدي ونبذ عبادة الأصنام واتباع إبراهيم، واستمرار الحنفاء عبر الإسلام , وانفراد الصابئين ببقائهم على عاداتهم , وما كونوه من تيار دون الدخول في الإسلام، وما يشير إليه ذلك التيار هو تطور الذهنية الدينية عند بعض العرب قبل الإسلام , وشعور شريحة منهم بضرورة البحث عن الدين الحق الذي يتلاءم مع العقل والفطرة، ولم تفلح العقائد السائدة في إقناعهم فطوروا عقيدة خاصة بهم تنسجم مع فطرتهم، هذا الطابع الذي كان سائداً يحمل الطابع الإبراهيمي , وهو لا يمت بصلة إلى التفكير اليهودي المسيحي الذي نشأ مع الحركة النبوية الإسرائيلية، ومجرد انتشار الفكر الكتابي بين بعض العرب لا يدل على صبغة يهودية أو مسيحية للحنفاء وإلا لكانوا تهودوا أو تنصروا بل كانوا على مسافة من الكتابيين ومن الدين الجاهلي الذي كان سائداً قبل البعثة إلى أن جاء الإسلام منسجماً مع تطلعاتهم(65) .


    الدين الجاهلي: من يتتبع ما ورد عن عقائد الجاهليين في القرآن يجد أنها من التنوع والكثرة والاختلاف ما لا يحيط به اسم دين أو عقيدة، وهي عقائد متشابهة في بعض الأشياء والرموز , ومختلفة في البعض الآخر، لكن القرآن يورد مسمى واحداً يتكرر مع ذكر مختلف هذه العقائد , هو مفردة الشرك ومشتقاتها، بحيث يمكن اعتبار هذه التسمية تعبيراً عن العقيدة العامة التي كانت تسود في بيئة عصر البعثة، وأنها لا تعني نوعاً محدداً من العقائد، وأنها كانت عامة يمكن أن ينطوي فيها عقائد متنوعة، وقد تكون أحياناً مختلطة ومتداخلاً بعضها مع بعض، يجمع بينها ضابط عام هو إشراك ما دون الله مع الله أياً كان هذا الدون(66) .

    ولئن كان تعبير الشرك علَماً على الدين الجاهلي العام والمتنوع , فإن الطاغوت كما تشير السياقات هو علم على الآلهة المزيفة لعقيدة الشرك(67) ، ونظراً لهذا التنوع في العقائد والعادات والشعائر والطقوس التي تندرج تحت وصف الشرك , والتي أشير إليها في القرآن سنتناولها ضمن تصنيف جملي نستكشف من خلاله التصورات والعقائد التي تشمل: الإله، الغيب، الطقوس والشعائر، المحرمات .


    – تصور الإله عند الجاهليين : يحفل القرآن بذكر عدد من أسماء الآلهة الجاهلية التي كانت منتشرة في مكة أو خارجها والتي كان يعبدها العرب، كما ورد ذكر الأصنام والأوثان والأنصاب والأزلام وغيرها مما كان يعبده الجاهليون، ولم يقتصر أمر الشرك على المصنوعات المادية فقد ذكر عبادتهم للملائكة والجن والشمس والكواكب والدهر وغير ذلك(68) .


    ولم تحدد جغرافية هذه الآلهة وأماكن انتشارها وتاريخها إلا أنها تدل فيما تدل عليه من ورودها مجملة على التنوع الذي كان سائداً، وربما يكون مرده حصول تطور في الفكر الديني العربي أدى إلى الانتقال في تصور الإله من معبودات مادية إلى رؤية تجريدية، وذلك بفضل الاحتكاك والتعرف على عقائد أهل الكتاب والبيئات المحيطة بهم.


    إذ يلاحظ من خلال المصادر التاريخية أن العربي توهم الحياة في كل شيء فكان يرى في الجماد والحيوان شخصية خاصة بها، ورغم قلة المعلومات فإن هناك إشارات عديدة تذكر عبادة عديد العرب للحيوانات وكذلك الجماد والأحجار والأشجار .. وتحت تأثيرات داخلية وخارجية اتخذ التصور الديني العربي صيغة أكثر تجريداً فبرزت عبادة الكواكب والأجرام السماوية(69) , وفي خطوة متقدمة نجد عبادة الملائكة والجن كمخلوقات غيبية غير مدرَكة .


    وأياً تكن صورة الشريك فإن الآيات القرآنية(70) تشير إلى قدم إيمان العرب بالله , وأنهم كانوا يعتقدون أنه خالق السماوات والأرض , ومدبر الكون , وأنه الملجأ , وأنه يكشف الضر , وأنه الذي يرسل الأنبياء , وينزل الملائكة , ويوحي بالكتب، لكنهم رغم تطور هذا الفكر التجريدي لديهم عن الله لم يكونوا قد وصلوا إلى استساغة الاكتفاء بالإيمان بالله إيماناً غيبياً من غير رمز مادي، لذلك كانوا يعتقدون أنه هو الذي أمرهم بعبادته , والتقرب إليه عن طريق الشركاء أو الشفعاء أو الأولياء أو الشهداء حسب طريقة تصورهم للشريك , ودوره في العلاقة مع الله , وهذه التنويعات في التسميات والأدوار تشير إلى اختلاف وتطور في درجات التفكير الديني بينهم(71) ، هذا التنوع يقودنا إلى أرقى ما تطور إليه الفكر الديني العربي وهو الإيمان بالغيب .

    – الغيب عند العرب :كان للفكر الكتابي دور في إدخال أفكار عن عالم الغيب في بيئة كانت تعير المحسوسات أهمية في تفكيرها، لكن التطور الذي وصل إليه أصحاب هذه البيئة لم يكن ليسمح بتبني تلك الأفكار كما هي , لاسيما ما يخص منها تصور الله، ولعل المقارنة بين تصور النصارى لبنوة الإنسان لله وما تبناه المشركون العرب من فكرة البنوة لله يشير إلى التأثر من جهة والمحاكمة من جهة أخرى، فإذ أدرك الجاهليون وجود كائنات غيبية كالجن والملائكة , وهي في تصورهم أقرب إلى الله من حيث طبيعة تصورها التجريدي، وكان الأنسب في ذهنيتهم أن يكون اتخاذ الله للولد من الملائكة(72) .


    إذاً كان العرب يؤمنون بوجود الملائكة , ولهم تصور خاص عنهم وعن صلتهم بالله , وأن الله كان ينزلهم أو يرسلهم إلى من يشاء من عباده(73) ، وكانوا يتصورونهم بنات , وأن الله اتخذ منهم ولداً -كما أشرنا- وقد عبد بعض العرب الملائكة , وقد ورثوا هذه العقيدة عن الآباء(74) ، وربما تطورت لتصبح الملائكة مجرد شفعاء، وباعتبار الملائكة غير ماديين , ربما اتخذوا من الأصنام رموزاً , وهياكل للملائكة الذين هم في السماء(75) .

    ولعل ما ورد في القرآن من أوصاف للملائكة وعلاقتهم بالبشر , وبصيغ تقريرية يدل على تبني العرب لهذه التصورات عنهم , فكان السياق القرآني تأكيداً لتصورهم سموَّ الملائكة وغيبية عالمها .


    ولا يختلف الأمر كثيراً بشأن تصور العرب للجن إذ جعلوا بينهم وبين الله نسباً(76) ، وجعلوا منهم شركاء لله(77) ، وكانت عقيدتهم بالجن واسعة النطاق، كما كانوا يؤمنون بصلات بينهم وبين الإنس، وعبادتهم للجن كانت بدافع الخوف منهم , إذ يرون فيهم عناصر شر وفزع , بخلاف الملائكة الذين كانوا يرون فيهم عناصر خير وبر يستشفعون بهم(78) .


    وقد كان للجن في أذهان العرب حيز كبير من حيث قوتهم وقدرتهم على الخوارق , حتى ذكروا في معرض تحدي القرآن وتقرير عجز الإنس ولو استعانوا بالجن(79) .


    وليس هناك ما يشير إلى تصورهم لماهية الجن , لكن ما ورد في القرآن من وصف المشركين الرسول بأنه مجنون ربما يعني قصدهم كون ما يرد إليه إنما هو من الجن , إذ لا يمكن أن يكون منطقياً في تصورهم وصف الرسول بأنه مجنون بمعنى فقدان العقل , إذ عرف بينهم بالاتزان والحكمة، فيكون قصدهم أن ما يدعيه من الوحي ليس من الملائكة الخيرين الذين طلبوا منه إثبات إنزالهم عليه، وما يؤيد هذا المعنى للجنون إجابة القرآن على تهمة الرسول بالجنون بأن القرآن تنزيل من الله بواسطة الملك(80) ، لاسيما وأن العرب كانوا يتصورون اتصال الجن مع الإنس , لاسيما الشعراء والكهان والسحرة(81) ، هذا ومعظم ما ورد في القرآن عن الجن وإبليس والشيطان لاسيما ما ورد بأسلوب تقريري في سياق العبرة والعظة والتذكير يشير إلى كونه مما هو معلوم عند العرب(82) .


    هذا ولعالم الجن دور هام في حياة العرب إذ كانوا في تصورهم هم مصدر التنبؤ والكهانة والسحر والشعر، ونظراً لما يحتله من يمارس هذه الأشياء من مكانة فقد كانت مصدر تنافس بين القبائل مما ساعد على انتشار هذه الظاهرة(83) ، وهذا الجانب من الحياة العربية كان كأي جانب آخر عرضة للتطور والتغير، وما كان عليه الحال قبل البعثة هو نتيجة لتطور مستمر دام آلاف السنين , قام به رجال من أهل الجاهلية , إما بشعور ذاتي أو بتأثر خارجي من خلال الاتصال متعدد الأشكال مع العالم الخارجي.


    وهذه المقاربة العربية للغيب ومحاولات المتنبئين تذكرنا بتاريخ النبوة عند العرب وما ذكرهم به القرآن من نبوة هود وصالح باعتبارهم معروفين من قبلهم(84) .


    هذا وما يحمله العرب من تصور للنبوة والنبي , وما ينبغي أن يكون عليه من تأييد وقدرات خارقة كان مما دعاهم لرفض نبوة محمد التي لم تأت بالخوارق التي سمعوا عنها مما جاء به الأنبياء من قبل(85) .


    هذه التصورات للآلهة وللغيب على ما ينطوي عليه من تنوع أورثت عندهم تطلعاً لإرضائها والتقرب إليها خوفاً أو رغبة، فكانت لديهم بعض الطقوس و العادات والمحرمات .

    – الطقوس والمحرمات : كل عقيدة تفرض على معتنقيها طقوساً وتعاليم تميزها عن غيرها يفرضها مصدر الدين أو يتم تشكلها عبر الزمن , وقد تتأثر بالعقائد الأخرى أو الموروث الاجتماعي كما يمكن أن تتطور العادات والمواسم لتصبح طقساً دينياً .

    تشير الآيات القرآنية(86) إلى وجود طقس الصلاة بين الجاهلين لكن ليس هناك ما يدل على طريقة هذه الصلاة(87) ، وتشير أية فرض الصوم إلى قدم هذه الفريضة على من سبق من أهل الكتاب , ولا يستبعد بعض المؤرخين وجودها بين العرب أو كونها من بقايا شريعة إبراهيم(88) ، وكذلك الاعتكاف كعبادة دينية ورياضة روحية كان ممارساً قبل البعثة وقد أشار القرآن إلى الاعتكاف في البيت الحرام(89) .


    واسم يوم الجمعة يدل على اجتماعهم فيه , وربما اعتباره مشتملاً على خصوصية دينية(90) ، أما عبادة الحج فلا توجد أخبار مدونة عن مناسكه وشعائره عند الجاهلين(91) لكن الآيات القرآنية(92) صريحة في كونها من العبادات التي كانت سائدة قبل البعثة ومنذ عهد إبراهيم(93) .

    بل إن مكة ارتبطت بفريضة الحج التي أصبحت مقوماً من مقومات مكانة مكة، أما عن كيفية الحج عندهم فقد أشارت الآيات إلى وجود أشهر خاصة بالحج , وكانوا يتلاعبون بها، ولعل يوم الحج الأكبر الذي وردت فيه البراءة من المشركين هو يوم عرفة , إذ التسمية معروفة عندهم , وقد جاءت البراءة في نفس اليوم، وكذلك شبه القرآن بعث الجاهلين بعد الموت بالتزامهم النصب مما يشير إلى كونهم يلتزمونها أثناء طوافهم(94) .


    كما أمروا بترك ما كان في الجاهلية والإفاضة من حيث أفاض الناس، وكذلك السعي والهدي والقلائد وحرمة الصيد مما كان سائداً في مراسم الحج في الجاهلية، وبهذه الصورة يكون الإسلام قد صحح الحج الذي كان وخلصه من شوائب الشرك والوثنية وما لا يتلاءم مع قيم الإسلام(95) ، هذا ومن الشعائر التي كانت سائدة في الجاهلية كما هو الشأن في سائر الأديان تقليد القربان سواء ما كان متصلاً بهدي الحج أو مستقلاً عنه(96) .

    وقد وصل ببعضهم تقديم القربان البشري وهو أحد أسباب وأد البنات عندهم وتشير بعض الآيات إلى اقتران ذلك بالشرك(97) ، وبذلك تكون هذه الشعيرة من بقايا الشعائر الدينية التي كانت سائدة في القديم(98) .


    هذا وبالإضافة للشعائر كانت لدى الجاهلين بعض المحرمات, منها ما هو مرتبط بالحج كما أشرنا فيما يخص الأشهر الحرم , ومنها ما هو مرتبط بالقربان أو أنواع الحيوان , وما يؤكل منها وما لا يؤكل , وقد أشار القرآن إلى ما ابتدعوه من هذه المحرمات(99) وما أطلقوه عليها من أسماء كالسائبة والحام والوصيلة والبحيرة(100) .

    وقد اختلف كثيراً في تفسير هذه الأسماء , ولا يمكن الجزم بمعناها لكن الأهم هو ما تشير إليه من أن الجاهليين كانوا يراعون هذه الأمور مراعاة شديدة , ولهم فيها قواعد وأحكام ترجع إلى تقاليد قديمة حافظوا عليها إلى أن منعها الإسلام(101) .

    إن ما أوردناه من كيفية إشارة القرآن لما كان سائداً من أفكار وعقائد وأعراف وعادات , وتصحيحه لها وإقرار ما كان صحيحاً منها، بل واستعماله لمصطلحات كانت سائدة وتطويرها، حتى إن أهم مصطلحات الدين الحلال والحرام كانت سائدة قبل الإسلام، يدل على وجود فكر ديني وقانوني كان يحكم مسيرة العرب قبل الإسلام(102) ، وعلى الصعيد الأخلاقي فقد كانت المروءة عند الجاهليين كالدين عند المسلمين فهي أقصى ما يكون من أخلاق في الرجل , فكان لها دور في تكريس الشجاعة والمساواة والأريحية والكرم وغيرها من القيم الأخلاقية التي أقرها الإسلام(103) .

    خاتمة:

    هذه التفاصيل القرآنية التي أوردناها حول المجتمع العربي قبل الإسلام لاسيما فيما يخص الجانب الديني تدل على أن العرب لم يكونوا متفقين على عبادة موحدة , ولم يكونوا يعبدون إلهاً واحداً أو أصناماً معينة , كما لم يكونوا جميعاً على سوية واحدة في التفكير الديني، فلم يكن الانحطاط الديني عاماً للجميع(104) ، فقد كانت الجزيرة العربية تمثل اختزالاً لما كان يسود الكون من أفكار وأديان في العالم آنذاك , وذلك ما أهَّلها لتكون مهداً لرسالة عالمية تخاطب العالم , وتخرج من وسط تجمُّع له صلة بما يسود الفكر الديني في عصرها.


    هذه المقاربة إن بدت موغلة في التاريخ فإن جوهرها وما طرحته من رؤية حول تلك الفترة له صلة بحاضر العالم اليوم، فلئن ساد في الفكر الإحيائي في القرن الماضي وصف العالم بالجاهلية، وبدا ذلك متناقضاً من ناحيتين: المفارقة في المقارنة بين زمنين مختلفين ومفارقة مضمون المفهوم، فإن ما تفيده مقاربتنا أن الإنسان أحوج ما يكون للدين عندما يكون متقدماً وعالماً ومتطوراً، والأنبياء إنما كانوا يبعثون في بيئة حضرية متقدمة، والقيم الأخلاقية يحتاجها الغني أكثر من الفقير , والقوي أكثر من الضعيف.


    لذلك فإن عالم اليوم المتقدم والدول المتعملقة على أكتاف الضعفاء إنما تحتاج إلى بعث جديد يحيي فيها قيم الإنسانية التي جاء بها الأنبياء , ويفتح أفق الإنسان لتصحيح التاريخ وتوجيهه نحو التي هي أقوم, كما وجهته الرسالة الخاتمة عندما بعث محمد صلى الله عليه وسلم في أم القرى، فتحول الكون إلى قرية اليوم يشبه أحوال مكة أم القرى عند البعثة , حيث امتزاج الأفكار والأديان والأعراق ومحوريتها بين القرى.


    ويبقى التاريخ مصدراً حضارياً وملهماً أساسياً لمن يبتغي رؤية المستقبل رؤية بعيدة، فحاضر اليوم "وَلَنْ تَجِد لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً " ليس إلا نتيجة ما فعل بالأمس , والغد ليس إلا نتيجة ما نفعله اليوم.



  4. المجتمع العربي قبل الإسلام: دراسة قرآنية

    تمهيد:

    تعتبر البيئة التي شهدت ختم النبوة ذات دلالة هامة حول علاقة الرسالة بالواقع والسياق الجغرافي والتاريخي الذي بدأت فيه، كما أن معرفتها مهمة في فهم طبيعة الرسالة الخاتمة وخصائصها، والإلمام بهذه البيئة يكتنفه الكثير من الصعوبات والغموض , لاسيما فيما يخص الواقع الديني الذي كان سائداً آنذاك، إذ المراجع التاريخية حول هذه المرحلة وفي الجانب الديني بالخصوص قليلة جداً، وما وجد منها لا يفيد في الموضوع , إلا إشارات ودلالات عامة لا تفسر العقلية والتفكير الديني الذي كان سائداً , بخلاف مناطق ومراحل تاريخية أخرى , إذ توجد حولها نصوص ونقوش مفصلة أحياناً، وهذا ما عانى منه مختلف المؤرخين الذين اشتغلوا في الموضوع .

    أما النص القرآني فأسلوبه بشكل عام يبتعد عن التفصيل في المواضيع التاريخية , إذ يأتي بذكرها لتحقيق هدف خاص هو العبرة والنقد والتوجيه نحو المستقبل , واكتشاف السنة الإلهية، لذلك فهو غير صريح في الدلالة على ما كان سائداً، لكن ما ورد فيه من نقد متواتر لما كان سائداً من عادات وتقاليد وأفكار يمكن أن يكون مرجعاً غير مباشر لاكتشاف تلك البيئة المثيرة .

    وهذا ما سنتتبعه في هذه المقاربة مستأنسين ببعض ما ورد في الدراسات التاريخية المتخصصة في تلك المرحلة، وقد لوحظ أن القرآن يقدم عن الدين الجاهلي صورة تختلف تماماً عما تقدمه كتب التاريخ والأدب ، لاسيما وأن تلك المصادر سعت إلى تقليل شأن عصر النبي وبيئته قبل البعثة من الناحية المادية والأدبية , والمدارك العقلية حيث تصفها بصفات الجهل والانحطاط والغلظة..، وهي نظرة تخالف ما تلهمه نصوص القرآن عن تلك الفترة .

    المجتمع بين البدو والحضر:

    من الصعوبات التي نود أن نشير إليها والتي لم يسعف فيها النص القرآني ولا الدراسات التاريخية الخلط في المصادر بين البيئة الحضرية المكية التي بعث فيها الرسول وبين عادات وتقاليد أهل البدو والمناطق غير الحضرية، فما ورد عن العرب في الجزيرة العربية يتم تداوله مجملاً من غير تفصيل ، فهل ما ورد كان خاصاً بأهل مكة من العرب , أم يشمل ما جاورهم في أصقاع الجزيرة العربية من بواد وحواضر أخرى غير مكة وهي غير قليلة وعلى صلة مباشرة بأهل مكة، وما يدعو إلى إثارة هذا التساؤل ما يمكن ملاحظته من تناقض في العادات ، والقيم الواردة عنهم مجملة دون تفصيل، بل إن بعض المستشرقين شكك في مدينة مكة باعتبارها محطة للقوافل .

    وإذا تأملنا في القرآن نجد إشارات خاصة إلى الأعراب الذين يكونون عادة حول القرى، وبينت الآيات بعض أخلاقهم وعاداتهم وكيفية تعاملهم مع الرسول مشيرة إلى كونهم أشد كفراً وغلظة من أهل الحضر، مما يدل على تفاوت في قيم التعامل مع الرسالة بين أهل القرى وأهل البادية، كما أن الأعراب أنفسهم -كما تشير الآيات – لم يكونوا على درجة واحدة في تلقي الرسالة وتعاملهم معها ، ومما يلح على ضرورة التمييز بين البدو الحضر هو ظاهرة تعميم حال البدو الرُّحَّل , واعتبارهم مقياساً للثقافة العربية فيما قبل الإسلام .

    لكن بعض الباحثين لاحظ ضرورة إعادة الاعتبار للقرشيين الذين كانوا أكثر وعياً وذكاء وإنسانية من الجموع البدوية، وأنه كانت لهم قدرات أخلاقية وفكرية استثنائية، لا يستبعد أنها تكرست عبر تحول الشخصية لأناس كانوا بدواً في الماضي , وذلك بفضل الاستقرار الذي ساعد عليه توطد التجارة في مكة.

    وأن هذا الوضع الجديد للقرشيين في مكة أدى إلى دخول قيم جديدة بفضل الثروة , ومن هذه القيم النزعة الفردية , وروح المنافسة مقابل المثل الجماعية التي كانت طاغية , ويحاول هذا التفسير إبراز حاجة المجتمع إلى قيم جديدة تحافظ على القبيلة .

    أياً يكن الأمر فيما يخص الاختلاف بين أهل القرى وأهل البادية وما كان سائداً بين كل من نظُمٍ وقيمٍ، فإن من ميزات الإسلام أنه استطاع صهر المجموعات البدوية والحضرية في نسق واحد ووجههم في خط الرسالة ، والأهم هو فهم هذا المنهج القرآني من خلال الأفكار التي نقدها القرآن مجملة من غير تفصيل بيئتها وخلفيتها وأصحابها، كما هو الشأن في الكثير من القصص القرآني.

    فما لم يكن التاريخ مؤثراً في العبرة والدلالة يهمل، والذي يمكن تلمسه من خلال هذا العموم القرآني في الحديث عما كان سائداً قبل البعثة هو الثراء والتنوع والتناقض في القيم والأديان والعادات التي كانت سائدة قبل البعثة، حتى اعتبرت الجزيرة العربية مختزلة لأديان ومعتقدات العالم السماوي منها والأرضي .

    وفي هذا الإطلاق والتنوع في بيئة جغرافية مركزية تشهد حركية منقطعة النظير بين مختلف المناطق من العالم دلالة على الحكمة من كون الرسالة الخاتمة تنطلق من هذه البيئة إلى العالم ,إذ ستأخذ طابع البيئة التي انطلقت منها وهو العالمية، وهذا ما يدعونا إلى اكتشاف مكة في عصر ما قبل البعثة , وما أهَّلها لاحتضان مبعث النبوة الخاتمة .

    مكة قبل البعثة:

    إذا ذكرت مكة تعود الذاكرة إلى إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- ورفعهما القواعد من البيت , ونداء إبراهيم في الناس بالحج، ودعاء إبراهيم لأهل هذا البيت ، وفي هذه الإشارة والعلاقة بين إسماعيل وذريته والبيت الحرام دلالة على التقابل مع إسحق , وتوالي الأنبياء من ذريته، فكانت ذرية إبراهيم قد شرفت بالتاريخ الرسالي والجغرافية المقدسة والمحرمة، فلئن اختص نسل إسحق بالأنبياء فإن نسل إسماعيل ارتبط بالمكان الذي أصبح مركزاً ومآلاً للرسالات التي ختمت به ؛ لتنطلق إلى العالم بصيغة نهائية تناسب الكونية التي غدت تحتلها مكة وبيتها الحرام، أول بيت وضع للناس، الذي سيصبح مركز التاريخ الإنساني .

    هذه المركزية والعمق التاريخي لمكة الذي يشير إليه القرآن يدعو لمعرفة أحوالها , وذلك لفهم الأساس الذي قام عليه الإسلام.

    يطلق القرآن على مكة اسم أم القرى مما يحمل دلالة على محوريتها بين القرى الأخرى التي ترجع إليها , وتقلدها كعاصمة توجه المنطقة ، فموقفها من أي قضية يؤثر بموقف المناطق الأخرى حتى إذا فتحت ودانت بالإسلام تبعها الناس ، ومما لا يحتاج إلى تأكيد أن وجود الكعبة ومناسك الحج فيها كان العامل الأكبر في مكانة مكة , والمركز المعنوي الذي تتمتع به .

    إضافة إلى ما كانت تتمتع به من حركية تجارية بفضل موقعها على الطريق التجاري البري بين اليمن وبلاد الهلال الخصيب، وممارسة أهلها للتجارة مع مختلف بقاع العالم براً وبحراً، وكذلك المهن المرتبطة بالتجارة ، والقرآن يحفل بالآيات الدالة على ذلك .

    فالقرآن يستعمل تعابير مالية وتجارية لا بد كانت مفهومة ومتداولة مثل: الحساب والميزان والقسطاس والذرة والمثقال والقرض، كما ذُكرت السفن والجواري والمنشآت في البحر، وتردد فيه ذكر تجارة البحر، كما كانت ظاهرة الاستثمار بالربا والقرض ظاهرة منتشرة كما تدل آيات الربا في القرآن، وسورة قريشواضحة الدلالة على الرحلات التجارية البرية , وما كان يعقد فيها من اتفاقيات وعلاقات، والسور المكية تحفل بما يدل على ثرواتهم الطائلة .

    كما أن عاداتهم في استقبال القوافل التجارية بقيت مستمرة لما بعد الإسلام ، كل ذلك يدل على المكانة التجارية التي كانت تحتلها مكة قبل البعثة، ويستتبع هذه المكانة مستوى من الوعي الضروري الذي أهَّلهم للقيام بهذا الدور.

    هذا والمكانة الدينية التي تحتلها مكة منذ القديم هي العامل الأساسي في نجاحها التجاري , إذ شكل موسم الحج فيها سوقاً تجارياً سنوياً، والأهم من ذلك ما وفره الحرم من أمن لمكة , تلك المدينة التي لا تمتلك عوامل الأمن الطبيعية فجاء أمنها من قدسيتها واحترامها عند الناس, وقد أشار القرآن إلى هذا الجانب في قوله تعالى : " وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا , أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ " [القصص:57].

    بل هناك آية قرآنية صريحة في كثرة خيراته , وهي"يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ" وقد أشار اللَّهُإلى العلاقة بين الكعبة وموسم الحج وبين التجارة التي فيها قوام الحياة في قوله تعالى : "جعل الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ" [المائدة:97].

    قدسية مكة ومكانتها هذه فرضت بعض الوظائف الدينية والاجتماعية لدى أهل مكة الذين شرفوا بها، وهي وظائف متداخلة، فهي اجتماعية باعتبار علاقة الأقوام والقبائل بها , ودينية من حيث ارتباطها بالبيت الحرام ورعايته، ومن هذه الوظائف التي أشار القرآن إلى قيامهم بها: النسيء وهو تحديد مواعيد الأشهر الحرم من كل عام بما يتناسب مع مصالحهم ، والسقاية وعمارة المسجد الحرام ورعايته .

    هذه الصورة العامة لواقع مدينة مكة تدل على كونها مدينة تمتلك من مقومات النظام ما يؤهلها لقيادة ما حولها من الحواضر، بل وتنظيم العلاقات واللقاءات بين مختلف القبائل والوفود القادمة إليها، ولئن كان غامضاً طبيعة النظام الذي كان سائداً فإن هناك إشارات قرآنية عديدة إلى بعض الآليات التي كانت سائدة في إدارة مكة وقيادتها، من ذلك ظاهرة النوادي التي كان يجتمع فيها الناس ويتداولون الشأن العام , وقد أشار القرآن إلى ذلك .

    إضافة إلى العديد من المفردات التي تم تداولها في القرآن , والتي تدل على وجود ملامح الشوكة والسلطة والحكم في تلك البيئة، من ذلك: الجند، الإثبات والإخراج من مكة، الملأ، الحبس، السجن، أولو الأمر.. ، كل هذه المفردات تدل على مفهوم السلطة , وقد استعملت في آيات مكية، ومنها ما هو مباشر يخص أهل مكة , ومنها ما يدل السياق على علمهم بمضمونها ومعانيها.

    ونفس الأمر بالنسبة للقضاء فهناك آيات ومصطلحات – أبرزها مفردة الحكم ومشتقاتها- تدل على وجود نمط من السلطة القضائية تحل النزاعات بين الناس، وكانت تستند إلى التقليد والعرف، ويقوم بها الوجهاء، وتتم بالاختيار .

    هذا عن المعالم العامة لمكة قبل البعثة، أما الشرائح السكانية التي كانت تقطن في مكة فهناك آية تشير إلى وجود بعض الأجانب إلى جانب العرب، لكن هناك آيات مكية كثيرة تدل على وجود جالية لا بأس بها من أهل الكتاب يعيشون مع العرب في مكة وأكثرهم من النصارى وفيها بعض اليهود .

    أما جذور وتاريخ اليهود في الجزيرة العربية فليس هناك من النصوص التاريخية ما يتحدث عن وجودهم قبل الميلاد , أما بعده فقد ثبتت هجرتهم إلى الحجاز إثر ظهور الروم على بلاد الشام وفتكهم بالعبرانيين ، أما النصرانية فقد دخلت الحجاز عن طريق التبشير والنساك والرهبان الذين قدموا إليها .

    وقد دخل بعض العرب في النصرانية , أما اليهود فقد كانوا أقلية في مكة , وانتشروا في المدينة أكثر , ويدل الخطاب القرآني لهم بـ ( بني إسرائيل ) على الإطلاق على الصلة بين معاصري عصر الرسول وأسلافهم وعلى كونهم طارئين على الحجاز , وأنهم غير عرب.

    هذه الجالية الأجنبية المقيمة بمكة بما تحمله من أفكار وعادات، إضافة إلى الوفود السنوية من مختلف المناطق التي تفد إلى مكة في موسم الحج أو القوافل التجارية التي تمر عبر طريقها، كل ذلك سيكون له دوره في التلاقح الفكري الذي من الطبيعي أن يكون له أثره في أفكار وربما عقائد المكيين، وفضلاً عن هذا الجانب فإن لحضور هذه الجاليات دلالة على كون مكة فضاء مفتوحاً , وكون المكيين على إحاطة بما يجري في العالم , وعلى اتصال دائم بما حولهم، كل هذه المعطيات تؤكد المكانة الحضارية التي كانت تمتاز بها مكة مما أهلها لاحتضان الرسالة الخاتمة التي ستنطلق إلى العالم المختزل في عالم مكة الأرخبيلي.

    لكن المحور الأهم في حياة المكيين هو الأفكار والعقائد التي كانت سائدة قبل البعثة، ولئن كان القرآن المكي يشتمل على بيانها فإن السياق القرآني يعالج هذه الأفكار خارج إطار الزمان والمكان، وليس من الضروري أن تكون الأفكار المطروحة للنقد هي أفكار أهل مكة باعتبار أن الدعوة كانت تنطلق إلى جميع الناس , حتى الوفود الذين يردون إلى مكة أو القاطنين خارجها، مما يقتضي اتباع السياق القرآني , وتناول تلك الأفكار خارج السياق التاريخي والجغرافي، ويؤكد أهمية ذلك ما أشرنا إليه سابقاً من تداخل أفكار أهل البدو مع أهل الحضر دون تمييز.

    لهذه الاعتبارات سنتناول الأفكار والعقائد التي كانت سائدة قبل البعثة , والتي يشير إليها القرآن , وذلك بغض النظر عمن كان يتبناها ، والمكان والتاريخ الذي كانت منتشرة فيه، المهم حضورها في عصر الرسول.

    الأفكار والعقائد/ البيئة الدينية والفكرية قبل البعثة:

    يحتل المجتمع الجاهلي مساحة كبيرة من آيات القرآن , إذ بلغت الآيات التي تناولته /1575/آية، منها /1096/آية مكية و/479/آية مدنية، وتشكل عقائد المجتمع الجاهلي نسبة 54% من الآيات، ومعظمها مكي، وقد توزعت القضايا العقدية فيها على ثلاثة محاور: الشرك=514، البعث=282، إنكار الوحي=69 .

    هذه المعطيات العددية إن دلت على شيء فإنما تدل على أهمية تلك المرحلة , وضرورة معرفتها لما لها من أثر في تصور الإضافة التي جاءت بها الرسالة الخاتمة، والتركيز القرآني على مجموعة من العقائد المركزية , يشير إلى أهميتها في مضمون الرسالة الجديدة.

    سنحاول استكشاف المحاور الرئيسية للأفكار والعقائد التي كانت سائدة مستلهمين ذلك من آيات القرآن مع الإحالة على أماكن تفصيلها في كتب اختصت بالموضوع، وسنركز على ثلاثة محاور : الأفكار والعادات العامة , وسنجمل فيها ما ساد من عادات وتقاليد اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية بشكل عام، ثم نثني بالعقائد الدينية التي كانت سائدة , ونتبع ذلك بالطقوس الدينية المنتشرة .

    1- الأفكار والعادات العامة :

    يوصف المجتمع الذي سبق البعثة بالجاهلية , وهو وصف وارد في القرآن على بعض الجوانب في ذلك المجتمع ، فهو وصف نسبي ينطبق على الجانب العقدي وما يرتبط به , وبعض العادات الاجتماعية , ولا تصح هذه التسمية من الناحية الثقافية، فلم يكن مجتمع ما قبل البعثة كما تصوره الكثير من المصادر مجتمعاً معزولاً عن العالم , أو لا يعرف من العلوم شيئاً بل العكس، إذ كان لدى العرب أدب ولغة في غاية التطور، وكانت لديهم معارف بالأنساب والتاريخ والفلك، فضلاً عما تقتضيه الحركة التجارية التي كانت سائدة في المنطقة من علم بالاقتصاد والحساب والكتابة، والدلائل كثيرة على إلمام العرب بالقراءة والكتابة وانتشارها بينهم .

    هذا التقدم الحضري الذي سبق البعثة يذكرنا بالبيئات التي بعث بها الرسل من قبل , والتي كانت تتميز بكونها مجتمعات حضرية متقدمة , وربما بلغت شأواً في العلم والتقدم المادي، هذا الجانب المادي عندما يطغى على الجانب الأخلاقي يسود الظلم , ويصل بالمجتمع إلى مأزق روحي، فيأتي التدخل الإلهي عبر إرسال الأنبياء لتصحيح مسيرة الناس , وردهم إلى فطرتهم , والإيمان بالله الذي يقتضي العدل , وإعارة الجانب الروحي من حياة الإنسان حقه، فالتقدم المادي لا يستلزم رقياً دينياً أو روحياً , بل ربما كان عائقاً أمام انتشار القيم والمثل التي يحافظ عليها قلة في المجتمع، وهذا ما كان عليه حال المجتمع الذي سبق بعثة الرسول .

    فمن العادات الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العصر التمييز ضد المرأة المتمثل في مختلف الجوانب المتعلقة بها من طرق النكاح والطلاق إلى الإرث والوأد، وإن كانت هناك شريحة من النساء في نفس المجتمع تأخذ دوراً اجتماعياً متميزاً ينافس الرجل كالتجارة , والمشاركة في الدفاع عن المجتمع وقيمه، وقد حكى القرآن مناهضة نماذج من نساء ذلك العصر الدعوةَ الجديدة وإيذائهن الرسول .

    وهذا التفاوت في دور المرأة المتراوح بين كونها سبَّة وعاراً ومتاعاً , وبين ممارستها لدور قيادي في المجتمع يحمل إحدى دلالتين: إما تنوع الموقف من المرأة واختلافه بين الحضر والبدو , أو بين القبائل , أو بين المناطق , أو بين أصناف من النساء في المجتمع الواحد , وقد حكى القرآن جميع الصور التي كانت موجودة بإجمال دون تفصيل , مع تقويمها وتصحيحها , ودعم ما هو صواب وإيجابي منها.

    والدلالة الثانية المحتملة أن المرأة كانت تتعامل مع تلك القيم التي تضطهدها على أنها أمر واقع وقانون اجتماعي ينبغي الرضا به وقبوله دون أن يمنعها من ممارسة دور ما يسمح به المجتمع، وهذه العادات المتعلقة بالأحوال الشخصية والعلاقة مع المرأة إنما هي عادات اجتماعية لا ترتبط بالدين الجاهلي إلا في بعض الجوانب منها , سنشير إليها لاحقاً.

    الجانب الآخر الذي كان سائداً من العادات , والذي كان يحمل أكثر من وجه من الناحية القيمية هو ظاهرة الولاء والعصبية بين أفراد القبيلة ومن يدخل في حلفهم، وكان هذا الجانب يمثل رابطة العقد السياسي الذي ينظم المجتمع , ويقوده ويضمن فيه الأمن والحفاظ على الحوزة ووحدة القبيلة، وقد أورثت هذه العادة بعض الجوانب الإيجابية التي استثمرها الإسلام ورعاها مثل: التآلف والتآزر ومساعدة الضعيف والجوار ..

    لكن الجانب الخطير لهذه العادات هو ما تورثه العصبية العمياء من ظلم واعتداء وسفك للدماء , وذلك بالثأر ومناصرة القبيلة , سواء كانت على حق أو باطل، فجاء الإسلام يصحح هذه المظاهر ويقومها.

    إضافة إلى هذه العادات كانت ظاهرة الطبقية والرق منتشرة عندهم، لكن العتق كان مكرمة يمتدح بها ممارسوها , وقد حارب الإسلام هذه الظاهرة , وشجع على مكرمة العتق التي كانت منتشرة كفضيلة بين الناس .




  5. هذه هي أهم العادات التي كانت سائدة , أوردنا مجملها من غير تفصيل ؛لأن تفاصيلها كثيرة وما أحلنا عليه من مراجع يغني عن التكرار, إنما أردنا الإشارة إلى الطابع المزدوج من الناحية القيمية لهذه العادات، وكيف تعامل القرآن معها مستثمراً الإيجابي منها , ومصححاً للجانب المظلم منها، وهذا المسلك القرآني مع العادات سيتكرر مع الجانب الديني الذي سنتناوله في الفقرة التالية .

    2 – الفكر الديني قبل البعثة :

    تطالعنا آيات القرآن بأسماء أديان كانت معروفة ومتداولة لها معتنقوها في ذلك العصر وهم: اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والمشركون ، وقد كان لهذه الأديان حضور وتواصل بين أتباعها، مما يجعل من الطبيعي أن يكون بينهم حوار وتأثر متبادل، وسنعرِّف بكل فريق منهم في إطاره الزماني والمكاني .

    اليهود والنصارى : أشرنا قبل قليل إلى وجود جالية من اليهود والنصارى في مكة، وكان لهم حضور أكبر في المدينة، وقد اعتنق بعض العرب النصرانية، وكان لبعضهم مكانة متميزة في المجتمع، وكانت تجري بينهم وبين المشركين حوارات وجدل في قضايا مختلفة، وقد تأثر بهم العرب , وتعلموا منهم بعض الفنون والقصص وأخبار الأنبياء والأمم الغابرة , فكان لعلمهم بالكتاب تميز على العرب الذين كانوا ينتظرون نبياً يبعث فيهم , بينما كان أهل الكتاب يدَّعون أن النبي سيبعث منهم.

    وكان لهم تأثير في أفكار العرب الدينية لكن دون أن يتمكنوا من اكتساح الوثنية الجاهلية ؛ ففضلاً عن كون اليهودية ديانة قومية لا تسعى لإدخال الناس فيها فإن أفكارها لا تناسب بيئة العربي الذي يسعى للحصول على الغنائم من الحروب بينما تحرم اليهودية الانتفاع بها، وكذلك المسيحية لم تكن لتقنع العربي الذي يحب الثأر أن يدير خده الأيسر لمن ضربه على خده الأيمن كما تدعو المسيحية .

    لكن ذلك لم يمنع من انتشار النصرانية بين بعض القبائل العربية ، وقد كان لأفكار اليهود والنصارى أثر في تطور الفكر الديني العربي الذي تقدم عليهم أحياناً كما سيتم الإشارة إليه، هذا ويتميز النصارى على اليهود بحسن علاقتهم مع المسلمين وتعاملهم السلمي مع الدعوة الجديدة , بخلاف اليهود الذين قاوموا الدعوة ومارسوا مختلف ألوان المكر والدس في محاربة الرسول والدعوة .

    ورغم ذلك كان هناك فريق من اليهود والنصارى آمنوا واتبعوا الرسول، ويحفل القرآن بما جرى من جدل بين الرسول واليهود والنصارى , وذلك في إطار أداء الرسول مهمته في التصديق والهيمنة لما بين يديه من الكتاب .

    المجوس: يقصد الأخباريون بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة، وقد وردت لفظة المجوس في القرآن علَماً لدين، فدل على وقوف أهل الحجاز على خبرهم ومعرفتهم بهم، ولا يستبعد وجود نفر منهم في مكة والمدينة والطائف وغيرها، ربما وجدوا عن طريق التجارة أو الرقيق، ولم يرد دخول قبائل عربية في المجوسية , ولهذا كان معظم مجوس جزيرة العرب من الفرس المقيمين في البحرين واليمن وعمان ، ويروى أن المجوسية كانت في تميم ، وأياً يكن الأمر ففي ذكرهم دلالة على صلة العرب بالأديان الشرقية مما سيكون له أثر في أفكارهم وعقائدهم.

    الصابئون: ذُكِر الصابئون في القرآن ثلاث مرات، وقد اتجه معظم المفسرين إلى جعل المقصود بهم ديانة الصابئة المختلف في عقائد أصحابها بين قائل إنهم من المجوس أو إنهم عُبَّاد الملائكة أو الكواكب أو الشمس، أو إنهم فريق جمع بين مختلف الأديان، ومن هذه العقائد ما طرأ بعد الإسلام .

    وكل هذه التفسيرات مستبعدة نظراً لذكرهم مع المجوس , وتصنيفهم مع اليهود والنصارى ذوي الأصل التوحيدي , مما يرجح كونهم أقرب إلى التوحيد، إضافة إلى أن الكلمة متداولة بين العرب بكثرة، وتدل لغوياً على الميل والانحراف ، وقد استعملها العرب لمن انحرف عن دين القوم وعقائدهم، وبهذا المعنى أطلقوها على من أسلم واتبع الدين الجديد، وكانت تطلق على من ترك عبادة الأصنام، كما كانت تستعمل في مقام الحنفاء .

    وقد أطلقت على الرسول وأصحابه، مما يرجح إطلاقها في عرفهم على الموحدين الذين نبذوا الأصنام قبل البعثة وانحرفوا عن دين قومهم، وهم في التعبير القرآني غير المسلمين وغير اليهود والنصارى وغير المجوس , كما إنهم معهودون بين العرب، وقد سُلِك العرب المسلمون في زمرتهم – رغم اعتراض المسلمين على التسمية – لاشتراكهم في الاعتراض على دين قومهم وانحرافهم عن تقاليده وقولهم بالتوحيد، ولعلهم هم نفس الحنفاء الذين كانوا في الجاهلية.

    ولا يزال مفهوم الصابئين من المفاهيم الشائكة التي حيرت المفسرين والباحثين قديماً وحديثاً ، وأرى أن هذه التسمية القرآنية ربما لتميز الحنفاء الذين أسلموا من الذين استمروا منهم على ما هم عليه ولم يدخلوا في الإسلام , إذ وصف الحنفاء التحم بوصف الإسلام , بينما الصابئون سلكوا في صنف الأديان ذات الأصل التوحيدي دون أن يعتنقوا الإسلام، فهم الحنفاء قبل الإسلام ولم يتحولوا إليه، وهذا يحيلنا على الحنفاء قبل الإسلام .

    الحنفاء: عرف الحنفاء بين المسلمين بأنهم من كانوا على دين إبراهيم من الجاهليين، فلم يشركوا بربهم أحداً , ولم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية، ولم يقبلوا بعبادة الأصنام ديناً , بل سفهوا تلك العبادة والقائلين بها، وكانت لهم عادات خاصة تميزوا بها، وعلى العموم فإن المصادر لا تساعد على رسم صورة واضحة للحنفاء، فما ورد في القرآن يؤكد أنهم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام، فلم يكونوا من المشركين، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى، فلم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وكان قدوتهم إبراهيم.

    أما المصادر التاريخية فإن معظم ما ورد فيها عنهم يخص الناحية الأخلاقية أكثر مما يخص الناحية الدينية، وما يمكن ملاحظته أن الحنفاء كانوا على رأي واحد لا كطائفة واحدة، فقد كانوا نفراً من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح.

    ويرى البعض أن التيار الحنيفي كان يحمل مشروعاً دينياً سياسياً على مستوى الجزيرة العربية لكن الإسلام قام بالطموحين فانتفى الشرط التاريخي لظاهرة الحنفاء.

    خلصنا مما سبق إلى أن ما يجمع الصابئة والأحناف هو الأصل التوحيدي ونبذ عبادة الأصنام واتباع إبراهيم، واستمرار الحنفاء عبر الإسلام , وانفراد الصابئين ببقائهم على عاداتهم , وما كونوه من تيار دون الدخول في الإسلام، وما يشير إليه ذلك التيار هو تطور الذهنية الدينية عند بعض العرب قبل الإسلام , وشعور شريحة منهم بضرورة البحث عن الدين الحق الذي يتلاءم مع العقل والفطرة، ولم تفلح العقائد السائدة في إقناعهم فطوروا عقيدة خاصة بهم تنسجم مع فطرتهم، هذا الطابع الذي كان سائداً يحمل الطابع الإبراهيمي , وهو لا يمت بصلة إلى التفكير اليهودي المسيحي الذي نشأ مع الحركة النبوية الإسرائيلية، ومجرد انتشار الفكر الكتابي بين بعض العرب لا يدل على صبغة يهودية أو مسيحية للحنفاء وإلا لكانوا تهودوا أو تنصروا بل كانوا على مسافة من الكتابيين ومن الدين الجاهلي الذي كان سائداً قبل البعثة إلى أن جاء الإسلام منسجماً مع تطلعاتهم.

    الدين الجاهلي: من يتتبع ما ورد عن عقائد الجاهليين في القرآن يجد أنها من التنوع والكثرة والاختلاف ما لا يحيط به اسم دين أو عقيدة، وهي عقائد متشابهة في بعض الأشياء والرموز , ومختلفة في البعض الآخر، لكن القرآن يورد مسمى واحداً يتكرر مع ذكر مختلف هذه العقائد , هو مفردة الشرك ومشتقاتها، بحيث يمكن اعتبار هذه التسمية تعبيراً عن العقيدة العامة التي كانت تسود في بيئة عصر البعثة، وأنها لا تعني نوعاً محدداً من العقائد، وأنها كانت عامة يمكن أن ينطوي فيها عقائد متنوعة، وقد تكون أحياناً مختلطة ومتداخلاً بعضها مع بعض، يجمع بينها ضابط عام هو إشراك ما دون الله مع الله أياً كان هذا الدون.

    ولئن كان تعبير الشرك علَماً على الدين الجاهلي العام والمتنوع , فإن الطاغوت كما تشير السياقات هو علم على الآلهة المزيفة لعقيدة الشرك، ونظراً لهذا التنوع في العقائد والعادات والشعائر والطقوس التي تندرج تحت وصف الشرك , والتي أشير إليها في القرآن سنتناولها ضمن تصنيف جملي نستكشف من خلاله التصورات والعقائد التي تشمل: الإله، الغيب، الطقوس والشعائر، المحرمات .

    – تصور الإله عند الجاهليين : يحفل القرآن بذكر عدد من أسماء الآلهة الجاهلية التي كانت منتشرة في مكة أو خارجها والتي كان يعبدها العرب، كما ورد ذكر الأصنام والأوثان والأنصاب والأزلام وغيرها مما كان يعبده الجاهليون، ولم يقتصر أمر الشرك على المصنوعات المادية فقد ذكر عبادتهم للملائكة والجن والشمس والكواكب والدهر وغير ذلك .

    ولم تحدد جغرافية هذه الآلهة وأماكن انتشارها وتاريخها إلا أنها تدل فيما تدل عليه من ورودها مجملة على التنوع الذي كان سائداً، وربما يكون مرده حصول تطور في الفكر الديني العربي أدى إلى الانتقال في تصور الإله من معبودات مادية إلى رؤية تجريدية، وذلك بفضل الاحتكاك والتعرف على عقائد أهل الكتاب والبيئات المحيطة بهم.

    إذ يلاحظ من خلال المصادر التاريخية أن العربي توهم الحياة في كل شيء فكان يرى في الجماد والحيوان شخصية خاصة بها، ورغم قلة المعلومات فإن هناك إشارات عديدة تذكر عبادة عديد العرب للحيوانات وكذلك الجماد والأحجار والأشجار .. وتحت تأثيرات داخلية وخارجية اتخذ التصور الديني العربي صيغة أكثر تجريداً فبرزت عبادة الكواكب والأجرام السماوية , وفي خطوة متقدمة نجد عبادة الملائكة والجن كمخلوقات غيبية غير مدرَكة .

    وأياً تكن صورة الشريك فإن الآيات القرآنيةتشير إلى قدم إيمان العرب بالله , وأنهم كانوا يعتقدون أنه خالق السماوات والأرض , ومدبر الكون , وأنه الملجأ , وأنه يكشف الضر , وأنه الذي يرسل الأنبياء , وينزل الملائكة , ويوحي بالكتب، لكنهم رغم تطور هذا الفكر التجريدي لديهم عن الله لم يكونوا قد وصلوا إلى استساغة الاكتفاء بالإيمان بالله إيماناً غيبياً من غير رمز مادي، لذلك كانوا يعتقدون أنه هو الذي أمرهم بعبادته , والتقرب إليه عن طريق الشركاء أو الشفعاء أو الأولياء أو الشهداء حسب طريقة تصورهم للشريك , ودوره في العلاقة مع الله , وهذه التنويعات في التسميات والأدوار تشير إلى اختلاف وتطور في درجات التفكير الديني بينهم، هذا التنوع يقودنا إلى أرقى ما تطور إليه الفكر الديني العربي وهو الإيمان بالغيب .

    – الغيب عند العرب :كان للفكر الكتابي دور في إدخال أفكار عن عالم الغيب في بيئة كانت تعير المحسوسات أهمية في تفكيرها، لكن التطور الذي وصل إليه أصحاب هذه البيئة لم يكن ليسمح بتبني تلك الأفكار كما هي , لاسيما ما يخص منها تصور الله، ولعل المقارنة بين تصور النصارى لبنوة الإنسان لله وما تبناه المشركون العرب من فكرة البنوة لله يشير إلى التأثر من جهة والمحاكمة من جهة أخرى، فإذ أدرك الجاهليون وجود كائنات غيبية كالجن والملائكة , وهي في تصورهم أقرب إلى الله من حيث طبيعة تصورها التجريدي، وكان الأنسب في ذهنيتهم أن يكون اتخاذ الله للولد من الملائكة .

    إذاً كان العرب يؤمنون بوجود الملائكة , ولهم تصور خاص عنهم وعن صلتهم بالله , وأن الله كان ينزلهم أو يرسلهم إلى من يشاء من عباده، وكانوا يتصورونهم بنات , وأن الله اتخذ منهم ولداً -كما أشرنا- وقد عبد بعض العرب الملائكة , وقد ورثوا هذه العقيدة عن الآباء ، وربما تطورت لتصبح الملائكة مجرد شفعاء، وباعتبار الملائكة غير ماديين , ربما اتخذوا من الأصنام رموزاً , وهياكل للملائكة الذين هم في السماء .

    ولعل ما ورد في القرآن من أوصاف للملائكة وعلاقتهم بالبشر , وبصيغ تقريرية يدل على تبني العرب لهذه التصورات عنهم , فكان السياق القرآني تأكيداً لتصورهم سموَّ الملائكة وغيبية عالمها .

    ولا يختلف الأمر كثيراً بشأن تصور العرب للجن إذ جعلوا بينهم وبين الله نسباً، وجعلوا منهم شركاء لله، وكانت عقيدتهم بالجن واسعة النطاق، كما كانوا يؤمنون بصلات بينهم وبين الإنس، وعبادتهم للجن كانت بدافع الخوف منهم , إذ يرون فيهم عناصر شر وفزع , بخلاف الملائكة الذين كانوا يرون فيهم عناصر خير وبر يستشفعون بهم.

    وقد كان للجن في أذهان العرب حيز كبير من حيث قوتهم وقدرتهم على الخوارق , حتى ذكروا في معرض تحدي القرآن وتقرير عجز الإنس ولو استعانوا بالجن .

    وليس هناك ما يشير إلى تصورهم لماهية الجن , لكن ما ورد في القرآن من وصف المشركين الرسول بأنه مجنون ربما يعني قصدهم كون ما يرد إليه إنما هو من الجن , إذ لا يمكن أن يكون منطقياً في تصورهم وصف الرسول بأنه مجنون بمعنى فقدان العقل , إذ عرف بينهم بالاتزان والحكمة، فيكون قصدهم أن ما يدعيه من الوحي ليس من الملائكة الخيرين الذين طلبوا منه إثبات إنزالهم عليه، وما يؤيد هذا المعنى للجنون إجابة القرآن على تهمة الرسول بالجنون بأن القرآن تنزيل من الله بواسطة الملك ، لاسيما وأن العرب كانوا يتصورون اتصال الجن مع الإنس , لاسيما الشعراء والكهان والسحرة، هذا ومعظم ما ورد في القرآن عن الجن وإبليس والشيطان لاسيما ما ورد بأسلوب تقريري في سياق العبرة والعظة والتذكير يشير إلى كونه مما هو معلوم عند العرب.

    هذا ولعالم الجن دور هام في حياة العرب إذ كانوا في تصورهم هم مصدر التنبؤ والكهانة والسحر والشعر، ونظراً لما يحتله من يمارس هذه الأشياء من مكانة فقد كانت مصدر تنافس بين القبائل مما ساعد على انتشار هذه الظاهرة، وهذا الجانب من الحياة العربية كان كأي جانب آخر عرضة للتطور والتغير، وما كان عليه الحال قبل البعثة هو نتيجة لتطور مستمر دام آلاف السنين , قام به رجال من أهل الجاهلية , إما بشعور ذاتي أو بتأثر خارجي من خلال الاتصال متعدد الأشكال مع العالم الخارجي.

    وهذه المقاربة العربية للغيب ومحاولات المتنبئين تذكرنا بتاريخ النبوة عند العرب وما ذكرهم به القرآن من نبوة هود وصالح باعتبارهم معروفين من قبلهم.

    هذا وما يحمله العرب من تصور للنبوة والنبي , وما ينبغي أن يكون عليه من تأييد وقدرات خارقة كان مما دعاهم لرفض نبوة محمد التي لم تأت بالخوارق التي سمعوا عنها مما جاء به الأنبياء من قبل.

    هذه التصورات للآلهة وللغيب على ما ينطوي عليه من تنوع أورثت عندهم تطلعاً لإرضائها والتقرب إليها خوفاً أو رغبة، فكانت لديهم بعض الطقوس و العادات والمحرمات .

    – الطقوس والمحرمات : كل عقيدة تفرض على معتنقيها طقوساً وتعاليم تميزها عن غيرها يفرضها مصدر الدين أو يتم تشكلها عبر الزمن , وقد تتأثر بالعقائد الأخرى أو الموروث الاجتماعي كما يمكن أن تتطور العادات والمواسم لتصبح طقساً دينياً .

    تشير الآيات القرآنية إلى وجود طقس الصلاة بين الجاهلين لكن ليس هناك ما يدل على طريقة هذه الصلاة، وتشير أية فرض الصوم إلى قدم هذه الفريضة على من سبق من أهل الكتاب , ولا يستبعد بعض المؤرخين وجودها بين العرب أو كونها من بقايا شريعة إبراهيم، وكذلك الاعتكاف كعبادة دينية ورياضة روحية كان ممارساً قبل البعثة وقد أشار القرآن إلى الاعتكاف في البيت الحرام .

    واسم يوم الجمعة يدل على اجتماعهم فيه , وربما اعتباره مشتملاً على خصوصية دينية ، أما عبادة الحج فلا توجد أخبار مدونة عن مناسكه وشعائره عند الجاهلين لكن الآيات القرآنيةصريحة في كونها من العبادات التي كانت سائدة قبل البعثة ومنذ عهد إبراهيم .

    بل إن مكة ارتبطت بفريضة الحج التي أصبحت مقوماً من مقومات مكانة مكة، أما عن كيفية الحج عندهم فقد أشارت الآيات إلى وجود أشهر خاصة بالحج , وكانوا يتلاعبون بها، ولعل يوم الحج الأكبر الذي وردت فيه البراءة من المشركين هو يوم عرفة , إذ التسمية معروفة عندهم , وقد جاءت البراءة في نفس اليوم، وكذلك شبه القرآن بعث الجاهلين بعد الموت بالتزامهم النصب مما يشير إلى كونهم يلتزمونها أثناء طوافهم.

    كما أمروا بترك ما كان في الجاهلية والإفاضة من حيث أفاض الناس، وكذلك السعي والهدي والقلائد وحرمة الصيد مما كان سائداً في مراسم الحج في الجاهلية، وبهذه الصورة يكون الإسلام قد صحح الحج الذي كان وخلصه من شوائب الشرك والوثنية وما لا يتلاءم مع قيم الإسلام، هذا ومن الشعائر التي كانت سائدة في الجاهلية كما هو الشأن في سائر الأديان تقليد القربان سواء ما كان متصلاً بهدي الحج أو مستقلاً عنه .

    وقد وصل ببعضهم تقديم القربان البشري وهو أحد أسباب وأد البنات عندهم وتشير بعض الآيات إلى اقتران ذلك بالشرك ، وبذلك تكون هذه الشعيرة من بقايا الشعائر الدينية التي كانت سائدة في القديم.

    هذا وبالإضافة للشعائر كانت لدى الجاهلين بعض المحرمات, منها ما هو مرتبط بالحج كما أشرنا فيما يخص الأشهر الحرم , ومنها ما هو مرتبط بالقربان أو أنواع الحيوان , وما يؤكل منها وما لا يؤكل , وقد أشار القرآن إلى ما ابتدعوه من هذه المحرمات وما أطلقوه عليها من أسماء كالسائبة والحام والوصيلة والبحيرة.

    وقد اختلف كثيراً في تفسير هذه الأسماء , ولا يمكن الجزم بمعناها لكن الأهم هو ما تشير إليه من أن الجاهليين كانوا يراعون هذه الأمور مراعاة شديدة , ولهم فيها قواعد وأحكام ترجع إلى تقاليد قديمة حافظوا عليها إلى أن منعها الإسلام .

    إن ما أوردناه من كيفية إشارة القرآن لما كان سائداً من أفكار وعقائد وأعراف وعادات , وتصحيحه لها وإقرار ما كان صحيحاً منها، بل واستعماله لمصطلحات كانت سائدة وتطويرها، حتى إن أهم مصطلحات الدين الحلال والحرام كانت سائدة قبل الإسلام، يدل على وجود فكر ديني وقانوني كان يحكم مسيرة العرب قبل الإسلام، وعلى الصعيد الأخلاقي فقد كانت المروءة عند الجاهليين كالدين عند المسلمين فهي أقصى ما يكون من أخلاق في الرجل , فكان لها دور في تكريس الشجاعة والمساواة والأريحية والكرم وغيرها من القيم الأخلاقية التي أقرها الإسلام .

    خاتمة:

    هذه التفاصيل القرآنية التي أوردناها حول المجتمع العربي قبل الإسلام لاسيما فيما يخص الجانب الديني تدل على أن العرب لم يكونوا متفقين على عبادة موحدة , ولم يكونوا يعبدون إلهاً واحداً أو أصناماً معينة , كما لم يكونوا جميعاً على سوية واحدة في التفكير الديني، فلم يكن الانحطاط الديني عاماً للجميع، فقد كانت الجزيرة العربية تمثل اختزالاً لما كان يسود الكون من أفكار وأديان في العالم آنذاك , وذلك ما أهَّلها لتكون مهداً لرسالة عالمية تخاطب العالم , وتخرج من وسط تجمُّع له صلة بما يسود الفكر الديني في عصرها.

    هذه المقاربة إن بدت موغلة في التاريخ فإن جوهرها وما طرحته من رؤية حول تلك الفترة له صلة بحاضر العالم اليوم، فلئن ساد في الفكر الإحيائي في القرن الماضي وصف العالم بالجاهلية، وبدا ذلك متناقضاً من ناحيتين: المفارقة في المقارنة بين زمنين مختلفين ومفارقة مضمون المفهوم، فإن ما تفيده مقاربتنا أن الإنسان أحوج ما يكون للدين عندما يكون متقدماً وعالماً ومتطوراً، والأنبياء إنما كانوا يبعثون في بيئة حضرية متقدمة، والقيم الأخلاقية يحتاجها الغني أكثر من الفقير , والقوي أكثر من الضعيف.

    لذلك فإن عالم اليوم المتقدم والدول المتعملقة على أكتاف الضعفاء إنما تحتاج إلى بعث جديد يحيي فيها قيم الإنسانية التي جاء بها الأنبياء , ويفتح أفق الإنسان لتصحيح التاريخ وتوجيهه نحو التي هي أقوم, كما وجهته الرسالة الخاتمة عندما بعث محمد صلى الله عليه وسلم في أم القرى، فتحول الكون إلى قرية اليوم يشبه أحوال مكة أم القرى عند البعثة , حيث امتزاج الأفكار والأديان والأعراق ومحوريتها بين القرى.

    ويبقى التاريخ مصدراً حضارياً وملهماً أساسياً لمن يبتغي رؤية المستقبل رؤية بعيدة، فحاضر اليوم "وَلَنْ تَجِد لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً " ليس إلا نتيجة ما فعل بالأمس , والغد ليس إلا نتيجة ما نفعله اليوم.



  6. حرب البسوس ….دامت اربعين عاما

    وقعت هذه الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ، وقد مكثت أربعين سنة ، وقعت فيها هذه الأيام : يوم النهى ، ويوم الذنائب ، ويوم واردات ، ويوم عنيزة ، ويوم القصيبات ، ويوم تحلاق اللمم ، وجميعها أسماء مواضع تمت فيها الحروب ، ماعدا تحلاق اللمم لأن بني بكر حلقوا فيه جميعاً رؤوسهم فسمي بذلك. وانتصرت تغلب في أربع حروب، وبكر في واحدة، وتكافأت القبيلتان في حرب واحدة.

    وهذه قصة هذه الحروب:

    لما فض كليب بن ربيعة – اسمه وائل وكليب لقبه ، ولد سنة 440 م ، ونشأ في حجر أبيه ، ودرب على الحرب ، ثم تولى رئاسة الجيش : بكر وتغلب زمناً حتى قتله جساس بن مرة سنة 494 م – جموع اليمن في خزازى وهزمهم اجتمعت عليه معد كلها ، وجعلوا له قسم الملك وتاجه وطاعته ، وغبر بذلك حيناً من دهره ، ثم دخله زهو شديد ، وبغى على قومه لما هو فيه من عزة وانقياد معدّ له ، حتى بلغ من بغيه ، أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه ، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً له ، لا يختبئ أحد في مجلسه غيره ، ولا يغير إلا بإذنه ، ولا تورد إبل أحد ، ولا توقد مع ناره ، ولم يكن بكرى ولا تغلبي يجير رجلا ولا بعيراً أو يحمى إلا بأمره .

    وكان يجبر على الدهر فلا تخفر ذمته ، وكان يقول : وحش أرض في جواري ، فلا يهاج ! وكان هو الذي ينزل القوم منازلهم ويرحلهم ، ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره ، وقد بلغ من عزته وبغيه أنه اتخذ جرو كلب ، فكان إذا نزل به كلأ قذف ذلك الجر وفيه فيعوى ، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه ، وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من آذن بحرب ، فضرب به المثل في العز فقيل : أعز من كليب وائل ، وكان يحمى الصيد فيقول : صيد ناحية كذا وكذا في جواري فلا يصيد أحد منه شيئاً.

    وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وكان لمرة عشرين بنين جساس أصغرهم ، وكانت بنو جشم ، وبنو شيبان تقيم في دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة.

    وحدث أن كليباً دخل على امرأته جليلة يوماً فقال لها: هل تعلمين على الأرض أمنع مني ذمة ؟ فسكتت، ثم أعاد عليها الثانية فسكتت، ثم أعاد عليها الثالثة فقالت: نعم، أخي جساس – وهو جساس بن مرة ، كان فارساً شهماً أبياً ، وكان يلقب الحامي الجار ، المانع الذمار ، وهو الذي قتل كليباً ، مات سنة 534 م – وندمانه، ابن عمه عمرة المزدلف بن أبى ربيعة بن ذهل ابن شيبان.فسكت كليب ، ومضت مدة ، وبينما هي تغسل رأسه وتسرحه ذات يوم إذ قال لها : من أعز وائل ؟ قالت: أخواي جساس وهمام. فنزع رأسه من يدها وخرج.

    وكانت لجساس خالة اسمها البسوس بنت منقذ، جاءت ونزلت على ابن أختها جساس، فكانت جارة لبنى مرة، ولها ناقة خوارة، ومعها فصيل لها، فلما خرج كليب غاضباً من قول زوجه جليلة رأى فصيل الناقة فرماه بقوسه فقتله. وعلمت بنو مرة بذلك، فأغمضوا على ما فيه وسكتوا، ثم لقي كليب ابن البسوس فقال له: ما فعل فصيل ناقتكم ؟ فقال: قتلته وأخليت لنا لبن أمه، وأغمضت بنو مرة على هذا أيضاً.

    ثم أن كليباً أعاد القول على امرأته فقال: من أعز وائل ؟ فقالت: أخواي ! فأضمرها في نفسه وأسرها وسكت، حتى مرت به إبل جساس وفيها ناقة البسوس، فأنكر الناقة، ثم قال: ما هذه الناقة ؟ قالوا: لخالة جساس. فقال: أو بلغ من أمر ابن السعدية – أي جساس – أن يجير عليّ بغير إذني ؟ ارم ضرعها يا غلام، فأخذ القوس ورمى ضرع الناقة، فاختلط دمها بلبنها.

    وراحت الرعاة على جساس فأخبروه بالأمر، وولت الناقة ولها عجيج حتى بركت بفناء البسوس، فلما رأتها صاحت: واذلاه ! فقال لها جساس: اسكتي فلك بناقتك ناقة أعظم منها، فأبت أن ترضى حتى صاروا لها إلى عشر، فلما كان الليل أنشأت تقول – بخطاب سعداً أخا جساس وترفع صوتها تسمع جساساً:

    يا أبا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل.. فإني في قوم عن الجار أموات
    ودونك أذوادي إليك فإنني.. محاذرة أن يغدروا ببنياتي
    لعمرك لو أصبحت في دار منقذ..لما ضم سعد وهو جار لأبياتي
    ولكنني أصبحت في دار معشر..متى يعد فيها الذئب يعدو وعلى شاتي

    فلما سمعها جساس قال لها: اسكتي لا تراعي: إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً – وهو فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله، وإنما أراد جساس بمقالته كليباً -.

    ثم ظعن ابنا وائل بعد ذلك، فمرت بكر على نهى – أي غدير – يقال له شبيث ، فنفاه، كليب عنه وقال : لا يذوقون منه قطرة ، ثم مروا على نهى آخر يقال له الأحص ، فنفاهم عنه وقال : لا يذوقون منه قطرة ، ثم مروا على بطن الجريب – واد عظيم – فمنعهم إياه ، فمضوا حتى نزلوا الذنائب ، واتبّعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليه ، فمر عليه جساس ومعه ابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل ، وهو واقف على غدير الذنائب ، فقال له : طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا ! فقال كليب : ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون. فقال له : هذا كفعلك بناقة خالتي ، فقال له : أوقد ذكرتها أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لا ستحللت تلك الإبل بها ، أتراك مانعي أن أذب عن حماي ، فعطف عليه جساس فرسه فطعنه برمح فأنفذ حضني – الحضن مادون الإبط إلى الكشح- .

    فلما تداءمه الموت قال: يا جساس ، اسقني من الماء. فقال : ما علقت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه. فالتفت إلى عمرو وقال له: يا عمرو ، أغثني بشربة ماء ، فنزل إليه وأجهز عليه .

    وأمال جساس يده بالفرس حتى انتهى إلى أهله على فرسه يركضه ، وقد بدت ركبتاه ، ولما رأته أخته قالت لأبيها : إن ذا لجساس آتى كاشفاً ركبتاه ، فقال : والله ما خرجت ركبتاه إلا لأمر عظيم.

    فلما جاء جساس قال له : ما وراءك يا بني ؟ قال : ورائي أني قد طعنت طعنة لتشغلن بها شيوخ وائل زمنا. قال: وماهي ؟ لأمك الويل أقتلت كليبا؟ فقال : نعم ، فقال أبوه : إذن نسلمك بجريرتك ، ونريق دمك في صلاح العشيرة ، والله لبئس ما فعلت ! فرقت جماعتك، وأطلت حربها ، وقتلت سيدها في شارف من الإبل ، والله لا تجتمع وائل بعدها ، ولا يقوم لها عماد في العرب ، ولقد وددت أنك وإخوتك كنتم متم قبل هذا ، ما بي إلا أن تتشاءم بي أبناء وائل ، فأقبل قوم مرة عليه وقالوا : لا تقل هذا ولا نفعل فيخذلوه وإياك ، فأمسك مرة .

    ولما قتل كليب اجتمع نساء الحي للمأتم، فقلن لأخت كليب: رحلي جليلة من مأتمك ، فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب ، فقالت لها : يا هذه ، اخرجي عن مأتمنا ، فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا ، فخرجت وهي تجر أعطافها ، فقالت لها أخت كليب : رحلة المعتدي وفراق الشامت ، ويل غداً لآل مرة ، من السكرة بعد السكرة، فبلغ قولها جليلة فقالت : وكيف تشمت الحرة بهتك سترها ، وترقب وترها ،أسعد الله جد أختي ، أفلا قالت : نفر الحياء ، وخوف الاعتداء .

    ولما ذهبت إلى أبيها مرة قال لها: ما وراءك يا جليلة ؟ فقالت: ثكل العدد وحزن الأبد ، وفقد حليل ، وقتل أخ عن قليل ، وبين ذين غرس الأحقاد ، وتفتت الأكباد ، فقال لها : أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات ؟ فقالت: أمنية مخدوع ورب الكعبة أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربها.

    وكان همام بن مرة ينادم المهلهل أخا كليب وعاقده ألا يكتمه شيئاً. فلما ظعن مره بأهله أرسل إلى ابنه همام فرسه مع جارية ، وأمره أن يظعن ويلحق بقومه. وكانا جالسين، فمر جساس يركض به فرسه مخرجاً فخذيه، فقال همام : إن له لأمراً ، والله ما رأيته كاشفاً فخذيه قط في ركض ، ولم يلبث إلا قليلاً حتى انتهت الجارية إليها ، وهما معتزلان في جانب الحي. فوثب همام إليها، فسارته أن جساساً قتل كليباً، وأن أباه قد ظعن مع قومه، فأخذ همام الفرس وربطه إلى خيمته ورجع ، فقال له المهلهل : ما شأن الجارية والفرس ؟ وما بالك ؟ فقال: اشرب ودع عنك الباطل، قال: وما ذاك ؟ فقال: زعمت أن جساساً قتل كليباً، فضحك المهلهل، وقال: همة أخيك أضعف من ذلك، فسكت. ثم أقبلا على شرابهما ، فجعل مهلهل يشرب شرب الآمن ، وهمام يشرب شرف الخائف ، ولم تلبث الخمر أن صرعت مهلهلا ، فانسل همام وأتى قومه من بنى شيبان ، وقد قوضوا الخيام ، وجمعوا الخيل والنعم ، ورحلوا حتى نزلوا بما يقال له النهى.

    ورجع المهلهل إلى الحي سكران ، فرآهم يعقرون خيولهم ، ويكسرون رماحهم وسيوفهم ، فقال : ويحكم ما الذي دهاكم ؟ فلما أخبروه الخبر قال : لقد ذهبتم شر مذهب ، أتعقرون خيولكم حين احتجتم إليها ؟ وتكسرون سلاحكم حين افتقرتم إليه. فانتهوا عن ذلك، ورجع إلى النساء فنهاهن عن البكاء وقال: استبقين للبكاء عيوناً تبكى إلى آخر الأبد.

    ولما أصبح غدا إلى أخيه فدفنه، وقام على قبره يرثيه ، وما زال المهلهل بيكي أخاه ويندبه ، ويرثيه بالأشعار ، وهو يجتزئ بالوعيد لبنى مرة ، حتى يئس قومه ، وقالوا : إنه زير نساء ، وسخرت منه بكر ، وهمت بنو مرة بالرجوع إلى الحمى ، وبلغ ذلك المهلهل فانتبه للحرب ، وشمر ذراعيه ، وجمع أطراف قومه ، ثم جز شعره ، وقصر ثوبه ، وآلى على نفسه ألا يهتم بلهو ولا يشم طيباً ، ولا يشرب خمراً ، ولا يدهن بدهن حتى يقتل بكل عضو من كليب رجلاً من بنى بكر بن وائل.

    وحث بنى تغلب على الأخذ بالثأر ، فقال له أكابر قومه : إننا نرى ألا تعجل بالحرب حتى نعذز إلى إخواننا ، فبالله ما تجدع بحرب قومك إلا أنفك ، ولا تقطع إلا كفك ! فقال: جدعه الله أنفاً ، وقطعها كفاً ، والله لا تحدثت نساء تغلب أني أكلت لكليب ثمناً ولا أخذت له دية ، فقالوا : لا بد أن تغض طرفك وتخفض جناحك لنا ولهم ، فكره المهلهل أن يخالفهم فينفضوا من حوله ، فقال: دونكم ما أردتم.

    وانطلق رهط من أشرافهم وذوي أسنانهم حتى أتوا مرة بن ذهل فعظموا ما بينهم وبينه، وقالوا له: إنكم أتيتم أمراً عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل، وقطعتم الرحم، ونحن نكره العجلة عليكم دون الإعذار، وإننا نعرض عليكم إحدى ثلاث، لكم فيها مخرج ولنا مرضاة.

    إما أن تدفعوا إلينا جساساً فنقتله بصاحبنا، فلم يظلم من قتل قاتله ، وإما أن تدفعوا إلينا هماماً فإنه ند لكليب ، وإما أن تقيدنا من نفسك يا مرة ، فإن فيك رضا القوم.

    فسكت وقد حضرته وجوه بنى بكر بن وائل فقالوا: تكلم غير مخذول ، فقال: أما جساس فغلام حديث السن ركب رأسه ، فهرب حين خاف ، فوالله ما أدري أي البلاد انطوت عليه . وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة، ولو دفعته إليكم لصيح بنوه في وجهي وقالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره. وأما أنا فلا أتعجل الموت ، وهل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أول قتيل ! لكن هل لكم في غير ذلك ؟ هؤلاء بنيّ فدونكم أحدهم فاقتلوه ، وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها لكم بكر بن وائل. فغضبوا وقالوا : إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك ، ولا لتسومنا اللبن. ورجعوا فأخبروا المهلهل، فقال: والله ما كان كليب بجزور نأكل له ثمناً.

    واعتزلت قبائل من بكر الحرب ، وكرهوا مساعدة بني شيبان ومجامعتهم على قتال إخوتهم ، وأعظموا قتل جساس كليباً بناب من الإبل ، فظعنت عجل عنهم ، وكفت يشكر على نصرتهم ، ودعت تغلب النمر من قاسط فانضمت إليها ، وصاروا يداً معهم على بكر ، ولحقت بهم عقيل بنت ساقط.

    وكان الحارث بن عباد بن ضبيعة من قيس بن ثعلبة من حكام بكر وفرسانها المعدودين، فلما علم بمقتل كليب أعظمه ، واعتزل بأهله وولد إخوته وأقاربه ، وحل وتر قوسه ، ونزع سنان رمحه.

    ووقعت الحرب بين الحيين، وكانت وقعات مزاحفات يتخللها مغاورات، وكان الرجل يلقى الرجل والرجلان والرجلين هكذا ، وأول وقعة كانت على ماء لهم يقال له النهى كان بنو شيبان نازلين عليه ، ورئيس تغلب المهلهل ورئيس شيبان الحارث بن مرة فكانت الدائرة لتغلب ، وكانت الشوكة في شيبان ، واستحر القتال فيهم ، إلا أنه لم يقتل ذلك اليوم أحد من بني مرة.

    ثم التقوا بالذنائب فظفرت بنو تغلب ، وقتلت بكر مقتلة عظيمة ، ثم التقوا بواردات فظفرت بنو تغلب ، وكان جساس بن مرة وغيره طلائع قومهم وأبو نويرة التغلبي طلائع قومهم أيضاً ، فالتقوا بعض الليالي فقال له أبو نويرة : اختر إما الصراع أو الطعان ، أو المسايفة – أي التضارب بالسيوف- ، فاختار جساس الصراع فاصطرعا ، وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه ، وطلبوهما فأصابوهما وهما يصطرعان ، وقد كاد جساس يصرعه ففرقوا بينهما.

    ثم التقوا بعنيزة فتكافأ الحيان، ثم التقوا بالقصيبات وكانت الدائرة على بكر ، وقتل في ذلك اليوم همام بن مرة أخو جساس ، فمر به مهلهل مقتولاً فقال له : والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز عليّ فقداً منك.

    ثم كانت بينهم معاودة ووقائع كثيرة، كل ذلك كانت الدائرة فيها لبنى تغلب، ثم إن تغلب جعلت جساساً أشد الطلب، فقال له أبوه مرة: الحق بأخوالك بالشام، فامتنع، فألح عليه أبوه فسيره سراً في خمسة نفر ، وبلغ الخبر مهلهل ، فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلاً من شجعان أصحابه ، فساروا مجدين، فأدركوا جساساً فقاتلهم ، فقتل أبو نويرة وأصحابه ولم يبق منهم غير رجلين ، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه ، وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضاً، فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه.

    فلما سمع مرة بقتل ابنه جساس قال: إنما يحزنني أن كان لم يقتل منهم أحداً، فقيل له: إنه قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم، وقتل معه خمسة عشر رجلاً ما شركه أحد منا في قتلهم، وقتلنا نحن الباقين، فقال: ذلك مما يسكن قلبي عن جساس.

    فلما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى مهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً فاكفف عن الحرب، ودع اللجاج والإسراف، فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم، فلم يجب إلى ذلك.

    ثم إن بنى بكر اجتمعوا إلى الحارث بن عباد، وقالوا له: قد فني قومك ! فأرسل بجيراً ابن أخيه إلى مهلهل وقال له: قل له: إني قد اعتزلت قومي لأنهم ظلموك، وخليتك وإياهم ، وقد أدركت ثأرك وقتلت قومك. فأتاه بجبر فهمّ المهلهل بقتله ، فقال له امرؤ القيس بن أبان – وكان من أشراف بنى تغلب وكان على مقدمتهم زمناً – : لا تفعل ، فوالله لئن قتله ليقتلن به منكم كبش ، لا يسأل عن خاله من هو ؟ وإياك أن تحقر البغي ، فإن عاقبته وخيمة ، وقد اعتزلنا عمه وأبوه وأهل بيته. فأبى مهلهل إلا قتله، فطعنه بالرمح وقتله وقال له: (بؤ بشسع نعل كليب)! فلما بلغ قتله الحارث – وكان من أحلم أهل زمانه وأشدهم بأساً- قال: نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل ! فقيل له: إنما قتله بشسع نعل كليب، فلم يقبل ذلك.

    وأرسل الحارث إلى مهلهل: إن كنت قتلت بجير بكليب، وانقطعت الحرب بينكم وبين إخوانكم فقد طابت نفسي بذلك. فأرسل إليه مهلهل: إنما قتلته بشسع نعل كليب ! فغضب الحارث ودعا بفرسه – وكانت تسمى النعامة – فجز ناصيتها وهلب ذنبها- الهلب: الشعر كله وقيل في الذنب وحده -.

    ثم ارتحل الحارث مع قومه، حتى نزل مع جماعة بكر بن وائل، وعليهم يومئذ الحارث بن همام، فقال الحارث بن عباد له : إن القوم مستقلون قومك ، وذلك زادهم جرأة عليكم ، فقاتلهم بالنساء ، قال له الحارث بن همام : وكيف قتال النساء ؟ فقال : قلد كل امرأة إداوة من ماء ، وأعطها هراوة ، واجعل جمعهن من ورائكم ، فإن ذلكم يزيدكم اجتهاداً ، وعلموا قومكم بعلامات يعرفنها ، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته ، وإذا مرت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته ، وأتت عليه.

    فأطاعوه، وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها، استبسالاً للموت ، وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم ، وقال جحدر بن ضبيعة- وإنما سمي جحدراً لقصره – : لا تحلقوا رأسي ، فإني رجل قصير ، ولا تشينوني ، ولكن أشتريه منكم بأول فارس. يطلع عليكم من القوم، فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله.

    واقتتل الفرسان قتالا شديداً ، وانهزمت بنو ثغلب ، ولحقت بالظعن بقية يومها وليلتها ، واتبعهم سرعان بكر بن وائل ، وتخلف الحارث بن عباد ، فقال لسعد بن مالك : أتراني ممن وضعته الحرب ! فقال : لا ، ولكن لا مخبأ لعطر بعد عروس.

    وأسر الحارث مهلهلاً بعد انهزام الناس وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على المهلهل. قال: ولي دمي ؟ فقال: ولك دمك، قال: ولى ذمتك وذمة أبيك ؟ قال: نعم ، ذلك لك. قال المهلهل- وكان ذا رأي ومكيدة- : فأنا مهلهل خدعتك عن نفسي ، والحرب خدعة، فقال : كافئني بما صنعت لك بعد جرمك ودلني على كفء لبجير ، فقال : لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان ، هذاك علمه. فجز ناصيته وأطلقه ، وقصد امرئ القيس فشد عليه فقتله .

    فلما رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله جعل النساء والوالدان يستخبرونه: تسأل المرأة عن زوجها وابنها وأخيها، والغلام عن أبيه وأخيه ،ثم إن مهلهلاً قال لقومه : قد رأيت أن تبقوا على قومكم ، فإنهم يحبون صلاحكم ، وقد أتت على حربكم أربعون سنة ، وما لمتكم على ما كان من طلبكم ، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها ، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ، ورب نائحة لا تزال تصرخ في النواحي ، ودموع لا ترفأ ، وأجساد لا تدفن ، وسيوف مشهورة ، ورماح مشرعة ، وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم ، وتتعطف الأرحام حتى تتواصوا ، أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم، ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب، وأخاف أن أحملكم على الاستئصال ، وأنا سائر عنكم إلى اليمن.

    ثم خرج حتى لحق بأرض اليمن، فخطب إليه أحدهم ابنته فأبى أن يفعل، فأكرهوه وساقوا إليه أدَماً في صداقها فأنكحها إياه ، وكان قد بلغ قبائل بكر وتغلب زواج سليمى في مذحج ، وكان بين القومين منافسة ونفور، فغضبوا وأنفوا، وقصدوا بلاد القوم فأخذوا المرأة وأرجعوها إلى أبيها بعد أن أسروا زوجها.

    وملت جموع تغلب الحرب فصالحوا بكراً، ورجعوا إلى بلادهم ، وتركوا الفتنة ، ولم يحضر المهلهل صلحهم ، ثم اشتاق إلى أهله وقومه ، ولجت عليه ابنته سليمي بالمسير إلى الديار ، فأجابها إلى ذلك ، ورجع نحو قومه ، حتى قرب من قبر أخيه كليب ، وكانت عليه قبة رفيعة ، فلما رآه خنقته العبرة ، وكان تحت بغل نجيب، فلما رأى البغل القبر في غلس الصبح نفر منه هارباً ، فوثب عنه المهلهل ، وضرب عرقوبيه بالسيف ، وسار بعد ذلك حتى نزل في قومه زماناً ، وما وكده – أي قصده – إلا الحرب ، ولا يهم بصلح ، ولا يشرب خمراً ، ولا يلهو بلهو ، ولا يحل لأمته ، ولا يغتسل بماء ، حتى كان جليسه يتأذى منه من رائحة صدأ الحديد.

    فلما كان ذات يوم دخل عليه رجل من تغلب اسمه ربيعة بن الطفيل، وكان له نديماً، فلما رأى ما به قال : أقسمت عليك أيها الرجل لتغتسلن بالماء البارد ، ولتبلن ذوائبك بالطيب ! فقال المهلهل: هيهات ! هيهات ! يا بن الطفيل ، هبلتني إذا يميني ، وكيف باليمين التي آليت ! كلاً أو أقضي من بكر أربى ، ثم تأوه وزفر .

    ونقض الصلح، وعادت الحرب، ثم إن المهلهل أغار غارة على بنى بكر، فظفر به عمرو بن مالك أحد بنى قيس بن ثعلبة، فأسره وأحسن إساره، فمر عليه تاجر يبيع الخمر – وكان صديقاً للمهلهل- فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر، فاجتمع شبان من قيس بن ثعلبة ونحروا عنده بكراً، وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له ، فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بشعر ناح فيه على أخيه.

    فلما سمع عوف ذلك غاظه وقال: لا جرم إن الله على نذراً، إن شرب عندي قطرة ماء ولا خمر حتى يورد الخضير – أي لا يشرب شيئاً قبل خمسة أيام -، فقال له أناس من قومه: بئس ما حلفت ! فبعثوا الخيول في طلب البعير فأتوا به بعد ثلاث أيام، وكان المهلهل مات عطشاً.



  7. حروب الفجار


    اليوم الأول :

    كانت حروب الفجار بين كنانة وقيس، سميت الفجار لأنها كانت في الأشهر الحرم ، وهي الشهور التي يحرمونها ففجروا فيها ، وهي فجاران ؛ الفجار الأول ثلاثة أيام ، والفجار الثاني خمسة أيام في أربع سنين ، وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم يوم عكاظ مع أعمامه وكان يناولهم النبل ، وانتهت سنة 589م .

    كان بدر بن معشر الغفاري رجلا منيعاً مستطيلاً بمنعته على من ورد عكاظ. وفي أحد المواسم بعكاظ اتخذ مجلساً بها ، وقعد فيه ، وجعل يتطاول على الناس ويقول :
    نحن بنو مدركة بن خندق….من يطعنوا في عينه لا يطرف
    ومن يكونوا قومه بغطرف….كأنـهم لجــة بحـــر مسدف
    [ ومعنى يغطرف في البيت الثاني مأخوذ من الغطريف وهو السيد الشريف السخي الكثير الخير ، ومسدف أي مظلم ] .

    ثم مد رجله وقال : أنا أعز العرب ، فمن زعم أنه أعز منى فليضربها بالسيف ! فوثب رجل من بنى نصر بن معاوية ، فضربه بالسيف على ركبته فأندرها –أي قطعها – ، ثم قال : خذها إليك أيها المخندف – وهو ماسك سيفه – ثم قام رجل من هوازن فقال :
    أنا ابن همدان ذو التغطرف… بحر بحور زاخر لم ينزف
    نحن ضربنا ركبة المخندق…..إذ مدها في أشهر المعرف
    [ ومعنى أشهر المعرف أي الموقف بعرفات ] .

    قال أبو عبيدة : فتحاور الحيان عند ذلك ، حتى كاد أن يكون بينهما الدماء ، ثم تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير.

    اليوم الثاني :

    قالوا : إن شباباً من قريش وكنانة كانوا ذوى غرام ، فرأوا امرأة من بنى عامر وضيئة حسانة بسوق عكاظ جالسة ، عليها برقع لها ، وقد اكتنفها شباب من العرب وهي تحدثهم.

    فجاء الشباب من قريش وكنانة ، وأطافوا بها وسألوها أن تسفر ، فأبت ، فقام أحدهم فجلس خلفها وحل طرف ردائها ، وشده إلى فوق حجزتها [ أي فوق معقد الإزار من السراويل ] بشوكة وهي لا تعلم، فلما قامت انكشف درعها عن ظهرها ، فضحكوا وقالوا : منعتنا النظر إلى وجهك ، وجُدت لنا بالنظر إلى ظهرك.

    فنادت : يال عامر ! فساروا وحملوا السلاح ، وحملته كنانة ، واقتتلوا ، ووقعت بينهم دماء يسيرة ، فتوسط حرب بن أمية ، واحتمل دماء القوم ، وأرضى بني عامر من مثلة صاحبتهم.

    اليوم الثالث :

    كان لرجل من بني جشم بن بكر بن هوازن دين على رجل من كنانة، فلواه به [ أي ماطله ] وطال اقتضاؤه إياه، فلم يعطه شيئاً ، فلما أعياه وافاه الجشمي في سوق عكاظ بقرد وجعل ينادي : من يبيعني مثل هذا الرباح [ أي القرد ] بمالي على فلان بن فلان الكناني ! من يعطيني مثل هذا بمالي على فلان بن فلان الكناني ! رافعاً صوته بذلك ، فلما طال نداؤه بذلك ، وتعييره به كنانة مر به رجل منهم ، فضرب القرد بسيفه فقتله ، فهتف الجشمي : يا آل هوازن ! هتف الكناني : يا آل كنانة ! فتجمع الحيان حتى تحاجزوا ، ولم يكن بينهم قتلى ، ثم كفوا وقالوا : أفي رباح تريقون دماءكم وتقتلون
    أنفسكم ! وأصلح عبد الله بن جدعان بينهم.



  8. المد الإسلامي عبر التاريخ

    في قمة جبل «حِراء» الواقع في شمال «مكة» وفي المكان المشهور تاريخيا باسم غار " حراء " هذا المكان الذي يستغرق الصعود إليه ساعات ، يتسلق فيها الإنسان بين الصخور الوعرة بدأ المد الإسلامي ، حيث نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ـ الذي تعوّد أن يعتزل الناس فيه بعض الأيام والليالي ، متفكرا متدبرا في ملك الله وعظمته بعيدا عن حياة الصخب التي غالبا ما تهيمن على فكر الإنسان فتشغله بلهوه وملذاته أو مشاكله وأعبائه عن التأمل في مصيره وغايته من الحياة ـ أول آيات القرآن الكريم ، ذلكم الكتاب الذي يحوي الأسس اللازمة لحياة الإنسان حياة مستقيمة ومعتدلة ، تناسب طبيعته كمخلوق مميز على سائر المخلوقات ، وملبية – بانسجام – كل حاجاته.

    تلكم الآيات التي أمرته أولا بالتعرف على خالق الإنسان , وكيفية خلقه ، والغاية من خلقه " اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ".

    فتلقاها محمد صلى الله عليه وسلم وهبط بها ذاهبا إلى بيته وسط مكة ، ليجد هنالك -بعد أن سكن فؤاده- الملك ( روح القدس جبريل ) الذي نزل عليه بالغار مبلغا إياه أمر الله له بأن يشرع في توصيل رسالة الإسلام إلى الناس جميعا بعد أن يؤمن بها " يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاجر ….." .

    تلكم الرسالة التي تتمثل في نشر الحب والسماحة والمودة والرحمة بين الناس , وبر الوالدين , وصلة الأرحام , وإطعام الفقراء والمساكين واليتامى وكسوتهم , ومساعدة المحتاجين , والوفاء بالعهد ، والصدق والأمانة والكرم , وحسن الحديث , واحترام الصغير للكبير , وعطف الكبير على الصغير, والإحسان إلى الجيران , وحسن المعاشرة بين الأزواج .

    وتعلم العلم الذي يفيد البشرية , ونظافة البدن والملابس والبيوت والطرق , والمحافظة على الصحة والتجمل والتزين , وإتقان العمل , ونصرة المظلومين , وتحرير العبيد , واحترام آدمية الإنسان الذي خلقه الله بيديه ، وكرمه على سائر المخلوقات , ونشر الخير في الأرض , والرفق بالحيوان ورحمته , والاهتمام بزراعة الأشجار التي تفيد الإنسان وغير الإنسان , والمحافظة على الطبيعة التي وهبها الله لنا .

    والنهى عن الاعتداء , وسفك الدماء إلا بالحق , وعن الوقوع في الفواحش وسائر المنكرات ، وتناول المسكرات والخمور والمخدرات التي تضر بجسم الإنسان وتذهب بعقله ، وعن الكذب والخيانة والغدر ، وقول الزور ، وأكل الميتة , وعن السرقة والاغتصاب , وأكل مال اليتيم , وأكل أموال الناس بالباطل , وأخذ الرشوة , والحذر من الظلم , والتجبر والإفساد في الأرض , ومن نقص المكيال والميزان في البيع والشراء , والتعصب للون أو الجنس , وقتل الحيوانات لغير الحاجة أو إيذائها , وقطع الأشجار النافعة إلا لضرورة وحاجة .

    وكان رد فعله لذلك الأمر الإلهي "قم فأنذر " هو قوله لزوجه "ذهب النوم يا خديجة " أي ذهب وقت الراحة , وكيف ينام وقد كلفه الله بإرجاع البشرية في مشارق الأرض ومغاربها إلى مسارها الصحيح ، إلى رشدها ، إلى فطرتها التي فطرها الله عليها , بعد أن أغواها الشيطان فضلت , وانحرفت عن طريق الخير , بل ومواجهة كل جبار أو طاغ أو باغ أو سفيه يحول بينه وبين أداء تلك المهمة ؟!! .

    وانطلق صلى الله عليه وسلم إلى إنذار الناس كما أُمر , جاعلا شعاره " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " فأسرعت زوجه " خديجة " بالاستجابة له , وآمنت به , وأعانته على أمره , وكان لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له ، فيحزنه ذلك ، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها ، تثبته وتخفف عليه ، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس ، فكانت مثالا للمرأة المخلصة بحق لزوجها.

    وتبعه على دينه أيضا بناته (1), إذ كن مثل أمهن أسرع استجابة ، وأكثر طاعة له , وأسلم خادمه زيد بن حارثة , وابن عمه " علي بن أبي طالب " وكان ربيبه (أي نشأ وتربى معه ) وهكذا اجتمع شمل الأسرة على الإسلام بعد أيام قليه من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .

    ثم دعا صديقه أبا بكر فأسرع دون تردد بإعلان إسلامه؛ لما كان يعرفه من صدقه صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يقول على الله إلا الحق حتى قال عنه رسول الله : "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد ، إلا ما كان من أبي " (2)أي إنه بادر إليه .

    وصار صلى الله عليه وسلم يدعو من يعرفه إلى دينه هذا سراً وجهراً , كما يقول الزهري ، فاستجاب له من شاء من أحداث الرجال ( صغار السن )وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به , كما شاركه في نشر دعوته أصحابه الذين أسلموا معه ، وخاصة أبو بكر الصديق الذي بادر بدعوة زوجته وأبناءه إلى اعتناق الإسلام فأسلم أكثرهم , ولم يترك أحدا من أصحابه المقربين إلا وأرشده إلى خير هذا الدين , معتمدا على مكانته بين الناس , إذ كان كما قال ابن إسحاق " " رجلا تاجرا ، ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر ، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته "(3).

    وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقي بمن أسلموا معه فرادى و جماعات بعيدا عن أعين المشركين ؛ حتى لا يحدث احتكاك أو صدام بين الطرفين ( المسلمين والمشركين ) وكان يربيهم في لقاءاته على مبادئ توحيد الله سبحانه وتعالى , ويرغبهم في تزكية النفوس , ويحثهم على مكارم الأخلاق ، والتحلي بالفضائل ، والبعد عن الرذائل .

    ويقرأ عليهم آيات الله التي تصف الجنة , وما أعده الله فيها لمن أطاعه مثل قوله تعالى:" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ "(4) وقوله: " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ "(5).

    والآيات التي تصف النار وما يلقاه الكفار والمعاندون فيها من عذاب مثل قوله تعالى " وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ولا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِؤُونَ (6) وقوله تعالى:"يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى . وقوله تعالى:"إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر، ويل يومئذ للمكذبين"(7).

    وهذه الآيات لم يكن يتلوها عليهم مجملة, وإنما في مواقف متنوعة, فالله سبحانه وتعالى كان يذكر التكليف في القرآن ثم يتبعه بعرض الآيات التي ترغب في ثواب عمله أو عقاب تركه مما جعل النفس السوية سريعة إلى الاستجابة له.

    كما كان المسلون يؤدون في تلك اللقاءات الصلاة التي شرعها الله لهم بداية من بعثته صلى الله عليه وسلم .. .

    ولم يمض وقت غير طويل حتى أقبل الناس ـ كما قال ابن إسحاق ـ يدخلون في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء ، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة , بل توافد أصحاب الفطرة السليمة ممن سمع به خارج مكة ليعلنوا إسلامهم مثل أبي ذر الغفاري ، وعمرو بن عبسة الذي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقلت: من أنت؟ قال: نبيّ . قلت: وما النّبيّ؟ قال: رسول الله . قلت: الله أرسلك؟ قال: نعم، قلت بم أرسلك؟ قال: بأن تعبد الله ، وتكسر الأوثان ، وتوصل الأرحام، قلت: نعم ما أرسلت به.. فأسلمت وقلت: أتبعك ( ألزمك ) يا رسول الله، قال: لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت بأنّي قد خرجت ( أي انتشرت دعوتي) فاتبعني ، ثم أوصاه كما أوصى أبا ذر قبله أن ينقل رسالة الإسلام إلى قومه, وأن يتلطف في عرضها .

    وبعد مرور ثلاث سنوات من بعثته أمره الله أن يوسع دائرة دعوته , وألا يكتفي بدعوة من يألفه فقط ، وأن يعلن للناس جميعا أنه مبعوث من عنده سبحانه وتعالى إليهم كافة , ويدعوهم للدخول في الإسلام , وينذر من خالف أمره بغضب الله وعذابه الأليم في الآخرة , ويبشر من أطاعه بالنعيم الدائم في جنة الله , وأن يبدأ بعشيرته وأقربائه , فقال تعالى :"وَأّنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المْؤْمِنِينَ "(8).

    فاشتد عليه ذلك وضاق به ذرعا ؛ خشية من أن يكذبوه , وأن يواجههم بأمر لا يحبوه , يقول علي بن أبي طالب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" عرفت أنّي إن بادأت قومي رأيت منهم ما أكره، فصمتّ عليها، فجاءني جبريل فقال: يا محمد إنّك إن لم تفعل ما أمرك به ربّك عذّبك " وأنزل الله عليه " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ .. "(9).

    فصنع طعاما ودعا إليه أفراد أسرته , وبعد أن طعموا خطب فيهم قائلا : "الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وِأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إنّ الرائد لا يكذبه أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني لَرسولُ الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، واللهِ لَتمُوتُنَّ كما تنامون ، وَلتُبعثُنَّ كما تستيقظون، ولَتُحَاسَبُنَّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا , وبالسوء سوءا ، وإنها للجنة أبداً ، أو النار أبداً ، وأنتم أول من أنذر " (10) .

    ثم أخبرهم بأن الله قد أمره أن يعلن دعوته على الملأ , فقال له عمه أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك! وأقبلنا لنصيحتك! فامض لما أمرت به، فو الله لا أزال أحوطك وأنفعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب , وقال له باقي أفراد أسرته كلاما لينا إلا أبا لهب .

    ثم تكرر لقاؤه بهم حتى إذا أيقن بوقوفهم معه , وتعهد أبي طالب بحمايته ممن يريد به سوءا عند مواجهة الناس بأمره قام بتبليغ دعوته إلى سائر أهل مكة.

    فصعد على جبل يسمى جبل "الصفا" ونادى: يا معشر قريش! فقال الناس بعضهم لبعض محمد على الصفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا, فقالوا : مالك يا محمد؟ قال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟ قالوا : نعم , أنت عندنا غير متهم , وما جربنا عليك كذبا قط, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد, يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! يا بني زهرة ! حتى عدد الأفخاذ من قريش , إن اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين , وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا لا إله إلا اللّه (11).

    ولم يكتف بهذه الصيحة العالية التي أعلمت أهل مكة بأنه رسول الله إليهم,وجعلت دينه الجديد موضوع حديث الناس ونقاشهم , وإنما دفعه حب الخير للناس ، وحرصه على هدايتهم إلى أن يأتي الناس في منازلهم ومجالسهم ونواديهم ومتاجرهم وأماكن عملهم ، ليلا ونهارا ، غير عابئ بما يلقاه من جهد ومشقة ، أو سخرية واستهزاء , وإنما انطلق يشرح لهم حقيقة الإسلام , ويبين ما عليه المشركون في عصره من ضلال في عبادة الأصنام والأوثان , فهي حجارة جامدة صنعوها بأيديهم هم , وأن العقل والمنطق لا يقر ما هم عليه , وأن العبادة ينبغي أن تكون لله الذي خلقهم .

    وذلك بأسلوب سهل مقنع بعيد عن الجدال , فكان يجلس إلى النفر من الناس فيقول لهم : من خلقكم ؟ فيقولون الله , فيقول : من خلق السماوات والأرض والجبال ؟ فيقولون الله , فيقول من عمل الأصنام ؟ فيقولون : نحن , فيقول : فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق ؟ فانتم أحق أن يعبدوكم وأنتم عملتموها , والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه , فانقسم الناس أمام دعوته

    1ـ ما بين مصدق له مؤمن به بمجرد أن يلقاه ويسمع حديثه , حتى ورد أن أحد الأعراب ما إن سمعه يقول : " إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه "حتى أعلن إسلامه , وآخر يقول له : أستحلفك بالله ! آلله أرسلك وأمرك أن تبلغنا ؟ فلما قال : نعم , أعلن إسلامه , وهذا آخر يأتيه فيقول : يا محمد إلام تدعو ؟ قال : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له , وأن محمدا عبده ورسوله , وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر ولا ينفع ولا يدري من عبده ممن لم يعبده …"فاتبعه في الحال ، وصدق ما جاء به.

    2ـ وما بين متردد يبحث عما يوصله إلى الله من خلال النقاش معه , وهؤلاء تولى القرآن الكريم الإجابة على استفساراتهم , وإزالة الشك من قلوبهم .

    وذلك بلفت أنظارهم إلى التأمل في خلق الله , مثل قوله تعالى : " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(12) وقوله تعالى "قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ" (13)

    وكان القرآن يلفت نظره صلى الله عليه وسلم أيضا إلى طريقة حوار الأنبياء السابقين مع أممهم ؛ ليسترشد بهم , مثل قوله تعالى : " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ .."(14).

    3ـ وما بين جاهل بما جاء به صلى الله عليه وسلم من الحق متبعا أو مقلدا لغيره , ومع إن هذا الصنف يمثل الأغلبية من الناس , إلا أنهم كثيرا ما كانوا يقعون تحت تأثير الكبراء ، ويسيرون وراءهم في الإعراض عنه أو معاداته ؛ رغبا أو رهبا منهم, كعادة الناس في كل عصر , وقد نعى الله عليهم هذا الفعل , ونبههم إلى أنهم سيندمون على ذلك يوم القيامة , فقال تعالى :" يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً"(15).

    4ـ وما بين مكابر معاند مصر على كفره وشركه, وهؤلاء تمثلوا في الملأ من قريش والسادة الذين حسبوا أن الدين الجديد سيحول بينهم وبين البغي والتعالي على الناس , والتجبر في الأرض , وأكل أموال الناس بالباطل , وهي العلة التي تجعل الملوك والكبراء يقفون في وجه الأنبياء والرسل وسائر المصلحين في كل حين , ويحرضون عليهم الجهلة من الناس , البعيدين عن معرفة الحقيقة.

    فقد أنكروا عليه أن يصف الأصنام والأوثان وسائر الآلهة المزعومة التي يتسترون وراءها بما وصف , وأجمعوا خلافه , وذهبوا على عمه أبي طالب , وطلبوا منه أن يكفه عن دعوة الناس إلى الإسلام , وافتروا عليه ما لم يفعله أو يقله ، فقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإمّا أن تكُفّه عنّا ، وإمّا أن تُخلّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكَهُ (أي يقتلونه دونه ).

    ومن العجب أن هؤلاء كانوا يعلمون أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن سبابا , ولا عيابا , ولا فحاشا , وكل ما فعله أنه كان يقرأ على الناس قوله تعالى :" وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ"(16). ويبين ما هم عليه من ضلال , وأن الأصنام التي يعبدونها لا تستحق العبادة , ولم تطلب منهم ذلك , وإذا كان آباؤهم لم يجدوا من يرشدهم , فما عذرهم هم ؟ .

    ولم يبال صلى الله عليه وسلم بإعراضهم , ومضى يظهر دين الله ، ويدعو إليه , وكان موسم الحج إلى بيت الله الحرام قد اقترب فخشي هؤلاء الملأ من المعاندين أن يلتقي صلى الله عليه وسلم بالحجاج ، ويعرفهم بدعوته فيقبلون عليها ، فاجتمع سادتهم وصاروا يبحثون عن تهمة يرمونه بها ، ويشيعونها بين الناس ؛ حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوسهم، فقال لهم رجل يسمى "الوليد بن المغيرة‏":‏ أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا‏:‏ فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به‏.‏ قال‏:‏ بل أنتم فقولوا أسمع‏!‏ قالوا‏:‏ نقول‏:‏ كاهن‏,‏ قال‏:‏ لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه‏.‏

    قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ مجنون، قال‏:‏ ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ شاعر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه( يقصد أصناف الشعر العربي ) فما هو بالشعر، قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ ساحر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم‏.‏

    قالوا‏:‏ فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ والله إن لقوله لحلاوة، ‏وإن عليه لطلاوة‏,‏ وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا‏:‏ ساحر‏.‏ جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك ‏(17) وتناسوا أنه كان يأمر أتباعه بالبر والإحسان إلى أقاربهم وإن أساءوا إليهم , ووصلهم وإن قاطعوهم .



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.